أعلنت وزارة الخارجية الفرنسية يوم الأربعاء 7 ماي على لسان المتحدث باسمها كريستوف لوموان، أن فرنسا تلقت إخطارا بأن القضاء الجزائري أصدر «مذكرتي توقيف دوليتين» بحق الكاتب الجزائري الفرنسي كمال داود.
ووصفت فرنسا هذه الخطوة بأنها «مقلقة»، مؤكدة «متابعة تطورات القضية عن كثب»، مجددة التزامها بحرية التعبير والدفاع عن مبدعيها.
من جانبها، أوضحت محامية داود، جاكلين لافونت، أن موكلها تلقى إخطارين منفصلين عبر الإنتربول، الأول في مارس والثاني مطلع ماي الجاري، دون تقديم تفاصيل قانونية واضحة عن الأسباب.
إخراس الأصوات الناقدة
في مارس وماي 2025، أصدرت السلطات القضائية الجزائرية مذكرتي توقيف دوليتين ضد داود، أُرسلت إحداهما عبر الإنتربول، في محاولة واضحة لتدويل الملاحقة. وبينما تحاول الجزائر تبرير هذا الإجراء استنادا إلى قانون الإجراءات الجزائية، تؤكد منظمات حقوقية أن هذه الخطوة تأتي ضمن سياسة عامة تعتمدها السلطات الجزائرية منذ سنوات لإخراس الأصوات الناقدة، سواء من داخل البلاد أو من أبنائها في الخارج.
وترى محامية الكاتب الفرنسي الجزائري أن دوافع المذكرات «لا يمكن أن تكون إلا سياسية»، مؤكدة تقديم طلب عاجل إلى لجنة مراقبة ملفات الإنتربول للطعن في قانونية نشرها.
وقالت المحامية جاكلين لافونت إن دوافع هذه المذكرات « سياسية بحتة »، ومرتبطة مباشرة برواية داود الأخيرة «حوريات» التي تسلط الضوء على مجازر العشرية السوداء في الجزائر، وهي الفترة التي لا يزال النظام يعتبرها «خطاً أحمر» يمنع تجاوزه أو حتى روايته خارج السياق الرسمي.
إقرأ أيضا : إدانة بوعلام صنصال بالسجن تشعل الغضب الحقوقي والدولي: «وصمة عار» في جبين النظام الجزائري
وداود ليس أول كاتب يُستهدف من قبل النظام الجزائري، فقد سبقه الروائي بوعلام صنصال الذي حُكم عليه بالسجن خمس سنوات بتهم اعتبرها كثيرون «كيدية» مرتبطة بآرائه السياسية وكتاباته الناقدة.
ويتهم ناشطون ومنظمات حقوقية النظام الجزائري بمواصلة سياسة ممنهجة لقمع المثقفين والأصوات الحرة، بما في ذلك الصحفيين والفنانين والمدونين، مستخدما أدوات القضاء، والضغط العائلي، والتشهير الإعلامي.
الرواية التي أزعجت النظام
رواية «حوريات» التي فاز بها داود بجائزة «غونكور» الأدبية لعام 2024، تحكي قصة إحدى الناجيات من العشرية السوداء (1992-2002)، وهي المرحلة الدامية من تاريخ الجزائر التي أودت بأرواح نحو 200 ألف شخص.
ولم يكن كمال داود يجهل أن اقتحامه للذاكرة المسكوت عنها في الجزائر سيكون مكلفا. فـ«حوريات»، بقدر ما سلطت الضوء على جراح الماضي، فتحت ملفا لا يريد النظام الجزائري الاعتراف به إلا من زاوية واحدة: الزاوية الرسمية التي تبرر كل ما حدث. ومن هنا، لم تكن ردّة الفعل مجرد دفاع عن خصوصية أو شكوى أدبية، بل حملة شاملة لإسكات صوت مثقف حر لا يدين بالولاء.
إقرأ أيضا : كمال داود: «لن أكون أبدا عدوا للمغرب.. هذا البلد الذي استضاف الاستقلاليين الجزائريين»
بيد أن الرواية لم تمر مرور الكرام، خاصة بعد تتويجها بأرفع جائزة أدبية، إذ سرعان ما أُطلقت ضد كاتبها سلسلة من الملاحقات القضائية، أبرزها من امرأة جزائرية تُدعى سعادة عربان، ادعت أن داود وزوجته الطبيبة النفسية استغلا قصتها دون موافقتها، متهمة إياه بـ«انتهاك الخصوصية» و«إفشاء أسرار طبية».
ورد داود عبر حوار إذاعي مؤكدا أن القصة موضوع الرواية «معروفة للعامة في الجزائر، وخصوصا في وهران»، مشددا على أن العمل لا يذكر أسماء ولا يقدم أي انتهاك واضح للخصوصية، في محاولة منه لفصل الإبداع الأدبي عن النيات السياسية التي تحرك السلطات الجزائرية.
وتزامنت الشكوى التي رُفعت أمام القضاء الفرنسي مع أخرى في الجزائر، حيث تم تقديم طعنين ضد الكاتب وزوجته، وسط حملة إعلامية جزائرية ممنهجة استهدفت تشويه سمعة داود والنيل من مصداقيته.
تشويه ممنهج بأساليب دنيئة
ولم تكتف السلطات الجزائرية بالملاحقة القانونية فقط، بل مضت في ممارسة أساليب أكثر دناءة، عبر الزج بأفراد من عائلة الكاتب في حملتها ضده، بهدف زرع الفتنة بين الكاتب المقيم في فرنسا وعائلته في الجزائر.
فقد ظهرت شقيقته وسيلة داود في مقابلة تلفزيونية محلية تهاجم شقيقها وتشكك في روايته عن ظروف طفولته وتنتقده لأنه «يسيء لسمعة العائلة والجزائر». خطوة وصفها مراقبون بأنها «استغلال بشع للعلاقات العائلية ضمن حملة تحطيم نفسي ومعنوي ممنهجة».
كما دخلت على الخط أيضا «المنظمة الوطنية لضحايا الإرهاب»، حيث قدّمت شكوى إضافية تتهم فيها الكاتب بالإساءة لذكرى الضحايا، في مشهد يختلط فيه القانون بالدعاية السياسية، ويستعيد أساليب أنظمة سلطوية اعتادت تجريم الكلمة وتطويع القضاء لخدمة الحسابات الأمنية.
نظام يعادي الكلمة
تكشف قضية كمال داود الوجه الحقيقي لنظام عسكري بات يرى في كل صوت حر تهديدا لسلطته. فلم يعد القمع يطال فقط الصحفيين والمعارضين، بل امتدت يد البطش إلى الروائيين والمفكرين، ممن تجرؤوا على تفكيك الروايات الرسمية أو نبش الذاكرة التي يريد النظام احتكار سردها.
وكما حدث مع الكاتب بوعلام صنصال، الذي يقبع في السجن منذ شهور، تُظهر ملاحقة داود أن الكتابة الحرة أصبحت في عرف النظام الجزائري «تهمة» قد تفضي إلى الملاحقة القضائية ثم إلى السجن، وأن القلم صار يُعامل كخطر أمني.
إقرأ أيضا : بعد اعتقال الأديب بوعلام صنصال.. النظام الجزائري يترصّد كمال داوود لفضحه جرائم العشرية السوداء
إن إصدار مذكرتي توقيف دوليتين بحق كاتب على خلفية عمل أدبي ليس مجرد تجاوز، بل فضيحة سياسية وقضائية تعكس مدى الذعر الذي ينتاب النظام من أي تعبير مستقل.
وهكذا، تصبح قضية كمال داود شهادة صارخة على عداء السلطة الجزائرية المزمن للفكر الحر، وإعلانا صريحا بأن لا مكان في هذا البلد للإبداع، إن لم يكن خادما لـ«بروباغندا» الحاكم.