أكثر المتشائمين في الجزائر لم يكن يتصور أن اقتناء أضحية العيد في بلد الغاز والنفط سيصير مرهونا بـ« القرعة » ومقيدا بتعهّدات، ومشروطا بانتظار الشاحنات القادمة من إسبانيا ورومانيا.
موكب الأكباش
ولأن النظام الجزائري مولع بالاستعراض، فقد جرى تنظيم موكب استعراضي بمناسبة وصول الشاحنات المحملة بالأضاحي إلى مختلف البلديات، في مشهد أقرب إلى احتفال رسمي. فقد رافقت الشاحنات منبهات السيارات وأضواء الكاميرات وتصفيقات المواطنين، فبدا المشهد كما لو أن البلد قد انتصر في حرب... بينما الحقيقة أنه فشل فقط في تأمين الأضاحي لمواطنيه دون إذلال.
هذا المشهد، الذي سرعان ما غزا مواقع التواصل الاجتماعي، أثار موجة من السخرية والانتقادات، حيث رأى كثيرون فيه دليلا إضافيا على الإفلاس السياسي والبروباغندا الجوفاء التي باتت تميز أداء النظام في مواجهة أبسط الأزمات المعيشية.
قرعة الكبش!
كعادته في تضخيم القضايا البسيطة، أوعز النظام العسكري لأذرعه الإعلامية بنفخ عملية استيراد الأكباش، مروّجًا لها في وسائل الإعلام بوصفها « إنجازا عظيما » سيضمن - وفقا للعناوين المبالغ فيها - حصول «جميع الجزائريين» على أضحية العيد. بيد أن الواقع يطرح سؤالا بسيطا: كيف يمكن لمليون رأس غنم مستوردة أن تفي باحتياجات أكثر من 45 مليون نسمة؟
وفي لحظة تجل من « العبقرية »، أبدع ساكنو قصر المرادية حلا وُصف بـ« السحري« : تنظيم قرعة وطنية لشراء الأضحية! نعم، ليس للحصول عليها مجانا، بل لاقتنائها بمبلغ موحد حدد في أربعة ملايين سنتيم (40 ألف دينار جزائري).
واشترطت السلطات على الراغبين في المشاركة في « قرعة الكبش »: تقديم بطاقة تعريف، وبطاقة بنكية، وإثبات وجود المال في الحساب، ثم التوقيع على تعهد الالتزام بشراء الكبش (سواء كان حيّا أو ميتا)، إذا حالفه الحظ وورد اسمه في لائحة الفائزين.
وفي مشهد يلامس حدود العبث، اصطفت طوابير طويلة أمام البلديات، حيث تهافت المواطنون على مكاتب التسجيل طمعا في « كبش روماني » لا يتجاوز وزنه 35 كيلوغراما، بينما تقدّمه الدولة باعتباره « إنجازا وطنيا ».
الإعلامي الجزائري وليد كبير لم يفوّت الفرصة للسخرية من هذه المسرحية، حيث لم يستبعد أن تصبح « قرعة الكبش » حديث الأعراس واللقاءات العائلية، على شاكلة: « فلان ربح الكبش.. وفلانة ما صابت والو »، وربما - كما أضاف - تظهر تطبيقات هاتفية جديدة لتتبع الحظ في « لوطو الأضاحي ».
طابور جديد
في جزائر الطوابير، حيث اعتاد المواطن الاصطفاف من أجل المواد الغذائية الأساسية.. برز طابور جديد يختصر مأساة وطن في صورة بائسة: « طابور الكبش".
لم يعد الأمر مجرد ازدحام موسمي أمام محلات الجزارة للحصول على اللحوم المستوردة، بل طقوس مذلّة تبدأ من تسجيل البيانات في البلدية، مرورا بإثبات القدرة المالية، وانتهاء بانتظار اسمك في لائحة الفائزين بـ« حق الشراء« !
هكذا أُضيف طابور جديد إلى سجل الطوابير المزمن، ليصبح الكبش رمزا صارخا لفشل الدولة في توفير أبسط احتياجات مواطنيها، وتحول المواطن إلى متسول لـ« حقه الشرعي » في شعيرة دينية، لا كماليات استهلاكية.
سعر موحد.. العبث
من بين القرارات العشوائية التي أغضبت الجزائريين بشدة، تلك التي تتعلق بتوحيد سعر الأضحية في 40 ألف دينار، دون مراعاة للوزن أو الجودة، وكأن العدالة الاجتماعية تتحقق بالمساواة في الغلاء لا في الإنصاف.
إذ عبر المنتقدون عن استيائهم مؤكدين أن هذا الإجراء يجسد قمة العبث، إذ سيحصل من كان حظه سعيدا على كبش سمين، بينما ستكون الرؤوس الهزيلة من نصيب التعساء، على الرغم من دفعهم للثمن نفسه.
وبدل توحيد سعر رؤوس الأكباش، طالب كثيرون بتسعير الأضاحي بالكيلوغرام ضمانا للعدالة. أحدهم كتب منتقدا: « لماذا لا يتم تحديد السعر حسب الكيلوغرام بدل فرض عدالة الكبش العشوائي؟ »
لكن يبدو أن العدالة في الجزائر لا تشمل الأضاحي ولا المواطنين.
الرقم المليوني.. كذبة تتهاوى
أما « المليون رأس ماشية » التي وعد بها الرئيس تبون، فقد ظلّت مجرد أرقام تتردد في خطابات مجلس الوزراء، دون أن تجد لها أثرا حقيقيا على أرض الواقع. فهل يمكن لمليون كبش أن يلبي احتياجات ملايين الأسر الموزعة على 1500 بلدية في بلد شاسع كالجزائر؟
هذا الرقم، الذي روّج له إعلام النظام على أنه حل للأزمة، أثار موجة من التساؤلات حول جدوى وجدّية هذا التوجه. كثيرون رأوا فيه مجرد محاولة للتغطية على فشل واضح في تدبير ملف بسيط كأضاحي العيد، بينما جسّدت الطوابير الطويلة أمام البلديات مشاهد من الإذلال الجماعي، لتؤكد أن « الرقم المليوني » لم يكن سوى وهم تسويقي لم يغير شيئا من واقع الأزمة المريرة.
خروف من ورق
في مشهد استعراضي وصف بالصبياني، ظهر شبان جزائريون في منطقة زوج بغال الحدودية مع المغرب وهم يلوّحون بكبش من « كرتون » للمغاربة الواقفين في الجهة الأخرى، زاعمين أن الأضاحي متوفرة عندهم على عكس جيرانهم.
الفيديو أثار موجة سخرية عارمة، حيث رد مغاربة بتعليقات تسخر من المشهد الذي يشبه عروض مسرحية رديئة بلا نص ولا معنى، وكان أظرف وأعمق تعليق ما كتبه أحدهم يقول فيه: « كل شيء في الجزائر: المصانع، الطرق، السكك الحديدية، محطات تحلية المياه، وحتى الأكباش.. على الورق! »
دولة عاجزة عن تدبير أضاحي العيد
بينما اختار المغرب، الجار « المُتهكم عليه »، تعليق شعيرة نحر الأضاحي هذا العام حفاظا على قطيعه الوطني وتوازن سوقه، استوعب المواطنون القرار الملكي باعتباره خطوة عقلانية تستند إلى معطيات اقتصادية واقعية.
وفي المقابل، اختار النظام العسكري الجزائري — المعروف بنزعته للمخالفة العمياء تجاه كل ما يصدر عن الرباط — المجازفة بالذبح... فذُبح المواطن، وذُبحت الكرامة، ومعها فكرة الدولة ذات السيادة والثروة النفطية.
إقرأ أيضا : الجزائر: تبون يستورد مليون أضحية.. «زكارة» في المغرب أم تضحية بالاقتصاد؟
ولم تتوقف الانتقادات في الجزائر عند حدود الفشل الاقتصادي، بل تجاوزته لتكشف عن عمق الأزمة الأخلاقية والسياسية. فكيف لدولة تزعم امتلاك واحدة من أكبر احتياطيات الغاز في العالم أن تعجز عن تدبير ملف موسمي بسيط كأضاحي العيد؟ وأي منطق هذا الذي يتحدث عن « الأمن الغذائي » بينما توزع الأضاحي عبر قرعة، وتفرض على المواطن الفقير شروطا معقدة تبدأ من التقييد الإداري وتنتهي بتعهدات مذلّة وانتظار « حظ » عابر؟
ما يحدث اليوم في الجزائر يؤكد أن الأزمة لم تعد اقتصادية فحسب، بل هي انهيار في الإدارة والقيم والمعنى الحقيقي للدولة. نظام يرفع شعار « العدالة الاجتماعية »، ويترك المواطن يلهث وراء خروف دُفعت قيمته سلفا من جيبه، في مشهد لا يليق إلا بأنظمة أفرغت مؤسساتها من المضمون.
هكذا، تتجدد المهزلة: بين من ربح الكبش ومن خسر القرعة، وبين خروف سمين وآخر هزيل، يتكشّف وجه السلطة العسكرية التي فشلت في إدارة مجرد أكباش، فكيف تستطيع أن تدير شعبا؟