أثار إعلان مجلس الوزراء الجزائري، في اجتماعه الأخير، مصادقته على مشروع قانون يتعلق بالتعبئة العامة، موجة من الجدل والتأويلات وسط الرأي العام ووسائل الإعلام، حيث ربط العديد من المتابعين هذه الخطوة بإمكانية دخول البلاد في مرحلة من المواجهة، في ظل التوترات الإقليمية المتزايدة في منطقة الساحل وعلى الحدود الجنوبية.
الشعب ينتفض
الرد الشعبي على هذا القانون لم يكن هادئا ولا تقليديا، بل جاء ساخرا، لاذعا، وكاشفا لحالة فقدان الثقة التامة في النظام. من التعليقات الساخطة التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي، برزت عبارات تختزل الموقف العام: «لن نموت من أجل من العصابة التي سرقتنا»، «استدعوا أبناء الجنرالات أولا»، «هل سيكون معنا نجل بن ڨرينة في التعبئة أم لا؟»، «أول من يجب تعبئته هم ناهبو المال العام»... إنها عبارات تعكس قناعة راسخة بأن السلطة لم تعد تملك ما يؤهلها أخلاقيا أو سياسيا لمطالبة الشعب بالتضحية.
وتكشف هذه التعليقات، وغيرها كثير، أن الأزمة لم تعد محصورة في السياسات أو البرامج، بل بلغت حدّ القطيعة النفسية والمعنوية بين الشعب ونظام الحكم، وهو ما يفسر موجة الرفض الجماعي التي قوبل بها القانون الجديد، حتى قبل دخوله حيّز التنفيذ.
أبناء الجيش ضد التعبئة
المفارقة الأكثر إثارة في موجة الرفض الشعبي لقانون التعبئة العامة أن أولى فئاته لم تكن من المدنيين، بل من أبناء المؤسسة العسكرية نفسها، خاصة المتقاعدين منهم، ممن خبروا ويلات الإرهاب خلال العشرية السوداء وواجهوه دفاعا عن النظام الذي تخلى عنهم بعد أن أدوا مهمتهم.
هؤلاء، بصوت مكسو بالخذلان والغضب، كانوا الأسبق في فضح كذبة «التضحية من أجل الوطن»، مؤكدين أن الوطن الذي لا يعترف بجميل من دافعوا عنه، لا يستحق تضحيات جديدة. ففي تعليقات لجنود وضباط سابقين على مواقع التواصل، توالت شهادات موجعة عن الإهمال، التهميش، وانعدام الرعاية، بل وحتى التشرد، بعد سنوات من الخدمة في «مناطق الموت».
كتب أحدهم تعليقا غاضبا في الصفحة الفيسبوكية لصحيفة «الشروق» الموالية للنظام، يقول فيه: «كان عليكم منح متقاعدي الجيش حقوقهم أولا قبل أن تتكلموا عن التعبئة العامة.. لن يدافع الشعب على العصابة التي نهبت وجوعت وأذلت وسجنت أبناء الوطن ظلما...» في ما يبدو صرخة من داخل البيت العسكري ذاته ضد خيانة الذاكرة الوطنية.
أما آخرون، فأعادوا التأكيد أن من يُطلب منه أن يُضحّي، ينبغي أولا أن يُكافأ بالكرامة، لا بالتجاهل. وهكذا انقلب شعار «التعبئة العامة» إلى مرآة تعكس منسوب القطيعة بين النظام وأوفى من خدموه يوما، ما يكشف حجم التصدع في رواية السلطة حتى داخل أقرب دوائرها.
آلة دعاية مفضوحة
وفي خضم انتشار موجة الرفض الشعبي للامتثال لقانون التعبئة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أمر النظام ذبابه الإلكتروني بالتصدي للموجة بهجوم مضاد. وهكذا سارعت وسائل الإعلام الموالية للنظام ومعها الحسابات المجيّشة و« المؤثرون » عبر مختلف منصات التواصل إلى إطلاق حملات تمجيد ودعم للمشروع، مدعين أن « 95% من الجزائريين مستعدون للتضحية من أجل الوطن »...
غير أن هذا الرقم كان كفيلا بإشعال موجة من السخرية والتهكم، ما يدل على أن الشعب بات أكثر وعيا بآليات التلاعب الإعلامي التي دأب النظام على استخدامها لتزييف الواقع بهدف توجيه الرأي العام كيفما أراد.
يتضح أن منصات التواصل في الجزائر تحولت إلى جبهة حقيقية، يواجه فيها الجزائريون جوقة الدعاية الرسمية بالحجج والأدلة والمعاناة اليومية، رافضين أن يتم الزج بهم في مغامرات عبثية جديدة، بينما يرفل أبناء الجنرالات في الرفاه والامتيازات.
وحدة وطنية مصطنعة
لا يبدو أن النظام يسعى من خلال هذا القانون إلى حماية الوطن بقدر ما يسعى إلى حماية نفسه من غضب شعبي يتصاعد على خلفية الأوضاع الاقتصادية المزرية، وغياب أفق سياسي واضح، وتدهور المعيشة، وفشل الخيارات الدبلوماسية في محيط إقليمي بالغ التعقيد.
ومن خلال قراءة تعليقات رواد مواقع التواصل الاجتماعي الجزائريين على مختلف منصات الانترنيت، يتبين أنهم واعون بالأهداف الحقيقية للنظام من وراء قانون التعبئة. إذ يبحث الجنرالات عن لحظة «وحدة وطنية مصطنعة»، يُعاد فيها تشكيل الإجماع الوطني من فوق، بواسطة قانون لا يحمي إلا امتيازاتهم. وهم في ذلك يستعيدون الأدوات ذاتها التي استعملوها خلال العشرية السوداء: إخافة الشعب من «عدو خارجي» متخيل، لتبرير مزيد من القبضة الأمنية، وتكريس الاستثناء السياسي كقاعدة.
الأزمة الحقيقية
تأتي خطوة «التعبئة العامة» كمؤشر إضافي على أن السلطة الجزائرية، بقيادة الرئيس عبد المجيد تبون وتحت وصاية الجنرالات، عاجزة عن إنتاج حلول حقيقية لأزمات البلاد، وتستبدل الإصلاح بمزيد من الترهيب، والخوف من العدو الخارجي بقمع المطالب الداخلية.
إن ما تحتاجه الجزائر اليوم ليس «التعبئة العامة»، بل تعبئة وطنية حقيقية نحو الإصلاح، نحو العدالة الاجتماعية، والقطيعة مع منطق الحكم العسكري الذي جعل البلاد تدور في حلقة مفرغة منذ عقود.