في منطقة المزونة التابعة لولاية سيدي بوزيد وسط تونس، لقي ثلاثة تلاميذ تتراوح أعمارهم بين 18 و19 عاما، مصرعهم، وأُصيب زملاء لهم آخرون بجراح خطيرة، جراء انهيار جدار مدرسة ثانوية، بُني في ثمانينيات القرن المنصرم وكان آيلا للسقوط وعانى من الإهمال طويلا، ولجأ الأهالي مرارا إلى التحذير من خطورته على حياة التلاميذ والمارّة خارج المدرسة أيضا.
وشهدت مدينة المزونة خروج المئات للتظاهر والاحتجاج على الواقعة، رافعين شعارات تؤكد أحقية الشعب في قول كلمته والتظاهر، منتقدين ما آلت إليه أوضاع البلاد وتردي الخدمات في قطاع التعليم.
وفي تونس العاصمة شارك مئات المحتجين من نشطاء في المجتمع المدني وطلاب الجامعات، حيث تجمعوا أمام المسرح البلدي ثم حاولوا الاقتراب من مقر وزارة الداخلية، حيث منعتهم قوة أمنية من الاقتراب ما تسبب في مناوشات بين الطرفين.
تراجيديا المزونة تعيد مشهد بو عزيزي
كما فعل محمد البوعزيزي يوم 17 ديسمبر 2010، حين أضرم النار في جسده احتجاجا على الظلم والتهميش، أضرم أهالي المزونة إطارات سيارات في الشوارع، وأطلقوا صيحات الغضب والاحتجاج بعد حادثة المدرسة. الحزن تحوّل بسرعة إلى غضب، والغضب إلى تمرد، ما ينذر بأنّ تونس تعيش مقدمات انتفاضة جديدة، تنطلق مجددا من الهامش المهمل.
الهتافات التي صدحت في جنازة التلاميذ الثلاثة لم تكن فقط تعبيرا عن فاجعة محليّة، بل كانت صرخة ضد منظومة كاملة من التهميش والإهمال.
إقرأ أيضا : الرئيس التونسي على خطى جاره الجزائري: تسليط القضاء ضد الخصوم
وردد المحتجون شعارات: ««الشعب يريد إسقاط النظام»، «لا خوف لا رعب الشارع ملك الشعب»، «شغل حرية كرامة وطنية»، «يا قيس يا دكتاتور جاءك الدور».. وهي شعارات تعيد إلى الأذهان لحظة الانفجار الشعبي التي أطاحت بنظام زين العابدين بن علي.
قيس سعيّد في عين العاصفة
الرئيس قيس سعيّد، الذي يحكم تونس منذ انقلاب 25 يوليوز 2021 على الديمقراطية، وجد نفسه مرة أخرى في مرمى اتهامات الشارع. ومع أن بيان الرئاسة حاول احتواء الغضب بالتلويح بمحاسبة المقصرين، إلا أن ذلك لم يوقف التظاهرات، لا في المزونة ولا في العاصمة تونس، حيث سار المئات باتجاه وزارة الداخلية، مطالبين بمحاسبة حقيقية لا تقتصر على كلمات جوفاء.
وتزامنا مع المظاهرات، أطلق أربعون شخصية تونسية بارزة من مختلف المشارب السياسية والمدنية والفنية عريضة تطالب برحيل قيس سعيّد فورا، محمّلين إياه مسؤولية ما وصفوه بـ«انهيار الدولة»، بسبب «تغوله وتفرده بالسلطة، وتعطيله لمؤسسات الرقابة والدستور».
الجزائر تتدخّل بخبرة القمع
وبينما ترتفع أصوات الغضب في تونس، تتحرك أجهزة المخابرات الجزائرية، التي تملك سجلا طويلا في قمع الاحتجاجات الشعبية، لتقديم «الدعم اللوجستي والخبرة» لنظام سعيّد الذي يعتبر حليفا استراتيجيا للرئيس عبد المجيد تبون.
فكما وفرت الجزائر مظلّة سياسية واقتصادية وأمنية لحكم سعيّد منذ انقلاب 2021، فإنها اليوم تتحسّب لأي سيناريو انفلات في تونس، قد يعيد الديمقراطية ويزعزع استقرار حليفها.
وتحدثت مصادر غير رسمية عن وجود تنسيق أمني جزائري-تونسي في ظل تصاعد الاحتجاجات، في محاولة استباقية لاحتواء أي موجة شعبية قد تهدد استقرار النظام.
ثورة الياسمين.. بنسخة جديدة؟
كل المعطيات على الأرض تشير إلى أن تونس ليست فقط على صفيح ساخن، بل تقف أمام مشهد يُذكّر بكل تفاصيل الثورة الأولى: تهميش المناطق الداخلية، غضب شعبي على الفساد والإهمال، شباب غاضب بلا أفق، وسلطة عاجزة عن الإصلاح ومصمّمة على السيطرة.
الاختلاف الوحيد أن هذه المرة، لم يعد الأمل معقودا على الأحزاب أو الانتخابات، بل على الشارع نفسه، الذي بدأ في استعادة زمام المبادرة.
وإذا استمر الاحتقان، وفشلت السلطة في تقديم استجابات ملموسة، فقد تكون تونس على موعد مع انتفاضة جديدة... قد تكون ربما أكثر حسما.