لكن المفارقة الساخرة أن هذا الإجراء «البليد» لم يمنع تسريب المواضيع ولم يحد من حالات الغش. فخلال أيام الامتحانات، تناقلت وسائل الإعلام الجزائرية أخبار ضبط تلاميذ وأطراف أخرى بحوزتهم أجهزة «بلوتوث»، ووسائل اتصال عن بعد، وحتى «فرق دعم خارجي» تقوم بالإجابة مقابل تسريبات إلكترونية.
حالة طوارئ رقمية
من البليدة إلى عنابة، ومن الأغواط إلى عين الدفلى، انهالت البيانات الأمنية كالمطر، تتحدث عن توقيفات، وحالات غش، وأجهزة « بلوتوث »، وتسريبات... والنتيجة؟ الغش مستمر رغم قطع الإنترنيت.
في مدينة البليدة مثلا، بعثت تلميذة «حرة» موضوع الفلسفة، عبر تقنية «البلوتوث» لشقيقتها التي تولت مهمة الغش «عن بعد»، لتتم إحالتهما إلى القضاء.
وفي عين الدفلى، ضبط تلميذان متلبسان بالغش باستخدام وسائل اتصال عن بعد، ونقلا من قاعة الامتحان إلى زنزانة الحبس المؤقت.
أما في الأغواط، فقد أصبحت قاعة المحاكمة تعج بـ15 شخصا بينهم من نشروا أجوبة على الإنترنت أثناء الاختبارات. وكل هذا وسط صمت إلكتروني فرضه النظام على الملايين!
لكن اللافت أن الغش لم يُردع لا بالتشويش الإلكتروني، ولا بالتخويف الأمني. ويتساءل الجزائريون اليوم بسخرية مُرة: إذا كانت الدولة عاجزة عن تأمين امتحان موحد، فكيف تطالب المواطنين بالثقة في نزاهة مؤسساتها؟ قطع الإنترنت، كما أعلن وزير التربية، كان « ضمن نطاق محدود »... لكن الحقيقة أن نطاقه طال جيوب المواطنين، وأعصابهم، وأعمالهم التي تعطلت كما لو أن الوطن في حالة طوارئ رقمية.
الردع الانتقائي
أمام فشل قطع الانترنيت في الحد من الغش، لجأت السلطات، كعادتها، إلى الترهيب العقابي: السجن من سنة إلى 15 سنة، وغرامات تصل لـ1.5 مليون دينار جزائري، لمن يتورط في تسريب أو نشر مواضيع الامتحانات. هكذا تبدو الدولة، على الورق، صارمة. لكن على الأرض، الغش لا يزال حاضرا، بل بات أكثر ابتكارا وإصرارا.
فهل المشكل في التلاميذ؟ أم في نظام يرى أن قمع المتعلم أسهل من إصلاح التعليم؟
وعد تبون المنكسر
يتذكر الجزائريون جيدا وعد الرئيس عبد المجيد تبون في عام 2020 حين قال: «لن نقطع الإنترنت خلال الامتحانات بعد الآن». لكن يبدو أن تبون نفسه وقع ضحية «نظام الغش الكبير»، حيث لم يُنفذ الوعد، واستمرت السلطات في تخدير المجتمع بـ«أجهزة التشويش» و«نطاقات الحظر»، بينما الواقع يشي أن من يمنع الإنترنت ليس قادرا على منع تسريب ورقة أسئلة من باب القسم.
فالمضحك – المبكي – أن الوزير محمد سعداوي أكد أن القطع كان جزئيا ومحصورا داخل المؤسسات، بينما عاش الشعب بأكمله عزلة رقمية حتى الخامسة مساء، يوميا حسب وسائل إعلام جزائرية، طوال فترة الامتحانات. وكأن الغشاشين يتسللون عبر الجيل الخامس، ويُحبَسون بالخدمة الأرضية!
الغش الحقيقي.. في القمة
أمام هذه الفوضى السنوية، لا يسع الجزائريين سوى السخرية المرة: «كيف لدولة تحكمها عقلية الغش أن تقضي على الغش؟» فالغش ليس مرضا طارئا في الجزائر، بل هو بنية سياسية قائمة، تبدأ من الانتخابات المزورة، وتمر عبر التقارير المفبركة، وتنتهي في كراسي الحكم المحروسة بالدبابات بدل الثقة الشعبية.
كل من تابع مشهد الغش في امتحانات البكالوريا، يعرف أن الدولة ليست بصدد «محاربة الغش»، بل في عرض مسرحي موسمي تُحاول فيه تلميع صورتها الملطخة. فحين يمارس مسؤولو النظام الغش في تعييناتهم، وترقياتهم، وصفقاتهم، واستحقاقاتهم، كيف نطلب من تلميذ مراهق أن يلجأ إلى الغش داخل قاعة امتحان؟
إن الغش الحقيقي في الجزائر، ليس ذلك الذي يمارسه تلميذ في قاعة امتحان، بل ذلك الذي يُمارسه النظام العسكري نفسه كلما تعلق الأمر بتزييف الحقائق، وتزوير الانتخابات، وبيع الأوهام. نظام يقطع الإنترنت ليحجب فشله، لا ليحارب الغش.. نظام قائم بأكمله على التزوير، ويريد البقاء عبر الشعار الأبدي: «لا للغش.. إلا إذا كان لصالحنا».