وقف فوزي زقوط، شاب في الثلاثين من عمره ينحدر من مدينة فرندة بولاية تيارت، أمام بوابة وزارة يُفترض أن تنصف المظلومين، لم يكن يحمل سلاحا ولا هتافا، بل قنينة بنزين وصرخة صامتة تقطر ألما ويأسا.
سكب السائل الحارق على جسده المرتجف، وكأنما أراد أن يُحمّل النيران كل ما لم تستطع الكلمات أن تقوله: خيبة العدالة، قسوة السلطة، وجرح الكرامة الذي لا يندمل.
لم يكن فعله رغبة في الموت، بل محاولة أخيرة لأن يُرى، أن يُسمع، أن يشعر من في الأعلى بوخز الضمير، إن تبقّى لهم ضمير. في تلك اللحظة، احترق جسد فوزي، لكن ما احترق أكثر هو ما تبقى من ثقة شعب في عدالة مفقودة ونظام لا يرحم.
صرخة ألم ضد الظلم
زقوط، الذي ظهر في الفيديو مرتديا قميصا أبيض وربطة عنق سوداء كما لو أنه متوجه إلى محفل رسمي، أوضح دوافعه قبل إقدامه على الفعل. صرح بأنه أراد لفت انتباه رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون إلى ما يعتبره «ظلما قضائيا»، بعد أن تلقى تهديدا بالسجن عشر سنوات من طرف قاضٍ بمحكمة فرندة، على خلفية نشاطه في جمع التبرعات لعلاج مرضى دون ترخيص رسمي من السلطات. وهي تهمة وُصفت من قبل نشطاء حقوقيين بأنها «ذريعة أمنية واهية لإسكات الأصوات الحرة».
ورغم تدخل عناصر الأمن بسرعة لمنعه من إحراق نفسه، وإخماد النيران التي أصابت الجزء العلوي من جسده، إلا أن الرسالة كانت قد وصلت، ودوّت في فضاء سياسي خانق بات فيه التعبير عن الرأي مرادفا للتجريم، والعمل المدني تهمة تستوجب المحاكمة، بل أحيانا السجن أو المنع من السفر.
رمز للألم الجزائري الصامت
خلفت محاولة فوزي زقوط حرق جسده أمام وزارة العدل صدمة عميقة وتذمرا واسعا في أوساط الجزائريين، الذين رأوا في هذا الفعل المأساوي انعكاسا صارخا للظلم المستشري وانسداد الأفق أمام المواطن البسيط الباحث عن الإنصاف.
وتفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي مع الحادثة بكمٍّ هائل من مشاعر الغضب والأسى، معتبرين أن ما أقدم عليه فوزي ليس فعلا فرديا يائسا، بل صرخة جماعية تعبّر عن اختناق شعب يُحاصر بالقمع والتهميش وانعدام الثقة في مؤسسات يُفترض أنها تسهر على تحقيق العدالة.
واشتهر زقوط كناشط جمعوي من مدينة فرندة بولاية تيارت الجزائرية، من خلال مبادراته الإنسانية والمجتمعية، حيث ساهم في تنظيم حملات لجمع التبرعات لمساعدة المرضى والمحتاجين، بالتعاون مع جمعيات محلية مثل «نور الأصيل الثقافية» و«فرقة بلا قيود».
ويُظهر نشاطه الجمعوي التزاما قويا تجاه خدمة المجتمع، مما جعله يحظى بتقدير واحترام في منطقته. ومع ذلك، واجه تحديات قانونية بسبب نشاطه، حيث تم اتهامه بجمع تبرعات دون ترخيص رسمي، مما أدى إلى مثوله أمام المحكمة.
وتحوّل فوزي عقب صرخته المؤلمة، في نظر الكثيرين، إلى رمز للألم الجزائري الصامت، الذي لا يجد من يسمعه إلا حين يشتعل.
قضاء مُسَيَّس في خدمة العسكر
حادثة زقوط ليست سوى فصلا جديدا من فصول مأساة القضاء الجزائري، الذي فقد استقلاليته منذ عقود، لكنه بات اليوم أداة مباشرة بيد السلطة العسكرية لتكميم أفواه النشطاء، وملاحقة المعارضين، وتبرير القمع باسم القانون. في حالات مشابهة، كان القضاة يواجهون ضغوطا من أجهزة الأمن، ويتعرض محامون لمضايقات، فيما يُستخدم القضاء كـ« مشرط قانوني » لتقطيع أوصال المجتمع المدني.
ورغم الترويج الرسمي لما يسمى « الإصلاحات القضائية »، لم تُفضِ تلك التصريحات إلا إلى المزيد من التبعية. حيث يتم تعيين وكلاء الجمهورية ورؤساء المحاكم بقرارات فوقية خاضعة لمصالح النظام وليس لاستقلالية القضاء.
وتُوظف الرقابة القضائية والإفراج المؤقت كسلاحين لابتزاز النشطاء، كما هو الحال مع فوزي زقوط، الذي وُضع تحت رقابة قضائية صارمة بينما تُرك من هددوه وتسببوا في انهياره النفسي دون مساءلة.
الإعلام تحت السيطرة
كعادتها، اكتفت وسائل الإعلام الجزائرية بنشر بيان رسمي مقتضب حول فتح النيابة العامة لتحقيق حول الواقعة، ليس لمعرفة أسباب إقدام هذا الشاب على حرق ذاته وإنما من ساعده في ذلك.
وهكذا ركزت وسائل الإعلام على مشاركة شخصين آخرين في الحادث، الأول قام بتصوير محاولة الانتحار، والآخر وفّر وسيلة النقل.
وبعيدا عن التحقيق، بدا واضحا أن السلطات سعت لتجريم فعل الاحتجاج بدل مساءلة المنظومة التي دفعت شابا إلى محاولة إنهاء حياته أمام مقر وزارة يفترض أنها معنية بالعدل.
وفي بلد تُغلق فيه القنوات الإعلامية المستقلة، وتُحجب المنصات الحرة، وتحاصر الصحافة المكتوبة بالقوانين والغرامات، لم يكن مستغربا أن تغيب التغطية الموضوعية للحادثة عن أغلب وسائل الإعلام الرسمية، بينما اكتفى بعضها بإعادة نشر بلاغ وكيل الجمهورية دون الإشارة إلى السياق الاجتماعي أو الحقوقي الذي أدى إلى الكارثة.
صرخة مجتمع يختنق
فوزي زقوط لم يكن يبحث عن الموت، بل عن الإنصاف. وقد اختار المكان والزمان بعناية: أمام وزارة العدل، في يوم محاكمته، مرتديًا ربطة عنق كمن يستعد لمقابلة مصيرية. رمزية الفعل لا تقل أهمية عن ألمه، فهي تكشف إلى أي حد بات اليأس هو القاسم المشترك بين فئات من المجتمع الجزائري، وسط انغلاق سياسي، وغياب عدالة، وانهيار الثقة في مؤسسات الدولة.
وتفتح هذه المأساة الباب مجددا لمساءلة النظام الحاكم: إلى متى سيستمر هذا الاستهتار بكرامة المواطن؟ إلى متى سيبقى القضاء مطية في يد العسكر؟ وأين هو موقع الإنسان في معادلة السلطة؟
اليوم، فوزي زقوط ما يزال على قيد الحياة، لكنه أشعل نارا سياسية وأخلاقية لن تُخمد بسهولة في بلد يفتك به الظلم البطيء باسم القانون.