لقد تم تمرير هذه الدعوة عبر صحيفة «لوموند»، التي تحولت في الأيام الأخيرة إلى منصة غير رسمية تخاطب من خلالها الدولة العميقة في فرنسا المملكة المغربية.
ونجد أن الموقعين على هذا النداء اللغم، هم مجموعة من الأكاديميين والحقوقيين والصحافيين، من جنسيات مختلفة، دعوا الدول الأوروبية وعلى وجه الخصوص فرنسا إلى التدخل لحل هذا النزاع المتصاعد بين المغرب والجزائر بشأن قضية الصحراء، بدعوى أن لفرنسا امتدادا تاريخيا في المنطقة.
نعم كان سيكون لهذا النداء أهميته ووجاهته، لو صدر من طرف أكاديميين ومؤرخين، يكون همهم تصحيح الأخطاء التاريخية التي سببتها فرنسا للمغرب، ويطالبون بإخراج الوثائق والمحفوظات الفرنسية القابعة في أرشيفها وعلى وجه الخصوص خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لأن المغرب كان ضحية للتقسيم والتجزئة التعسفية لأراضيه من قبل فرنسا، تلتها بعد ذلك المكائد الجزائرية التي تحركها أطماع الهيمنة في المنطقة.
إن فرنسا تتحمل مسؤولية نشأة هذا الصراع وعلى هؤلاء «الأكاديميين » الرجوع إلى التاريخ الحقيقي المفترى عليه، وإلى الخرائط التي توثق لتلك الحقبة من التاريخ المغربي، والرجوع كذلك إلى الكثير من الأبحاث والاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تثبت بشكل قاطع أن تلك المنطقة الغالية من تراب الوطن كانت جزءً لا يتجزأ من المغرب مما كان يسمى آنذاك الامبراطورية الشريفية والتي كانت تضم أيضا تندوف وتوات وبشار... ومن بين هذه الاتفاقيات تلك الموقعة سنة 1895 بين المغرب وبريطانيا العظمى، والتي تعترف فيها هذه الأخيرة رسميا بأن هذه المنطقة تعتبر جزءً لا يتجزأ من المغرب.
إذاً كيف لفرنسا أن تفكر في لعب دور الوسيط في صراع خلقته؟ وترفض الاعتراف بتحمل مسؤوليتها التاريخية في هذا النزاع! أما إدارة تحرير صحيفة «لوموند»، والتي يستهويها الخطاب التوجيهي المفعم بإديولوجية باتت من الماضي، فعليها الرجوع، على سبيل المثال وليس الحصر، للبحث في أرشيفها، حيث نحيلها إلى مقال نشر في 14 يونيو 1979، حيث أكد مراسل الصحيفة في مدريد تشارلز فانسكي ما مفاده بأن الغالبية العظمى من الصحراويين في البوليساريو لا علاقة لهم بالصحراء المغربية، حيث كتب «اليوم، يلاحظ القادة الإسبان أنه بينما يعيش نصف الأشخاص تحت سيطرة البوليساريو، بالطبع، تتكون من صحراويين من النيجر ومالي وموريتانيا والجزائر، وقد نجحت البوليساريو في خلق رابطة مشتركة بين هؤلاء السكان الصحراويين».
بناء على هذا، على الموقعين على هذا المقال الرجوع إلى السبب الحقيقي لتجميع هذا الشتات من طرف حكام الجزائر، ورفضهم السماح بإجراء إحصاء في مخيمات تندوف حتى الآن.
إن الدعوة إلى لقاء من هذا القبيل لن تنطلي أهدافه ومراميه على المغرب، ونحن لن نسمح لأحد بإعطائنا دروسا في الوطنية، كما لم يحدث قط أن تطاول المغرب على سيادة أي دولة، رغم كثرة الحركات الانفصالية التي تعرفها معظم دول العالم، لأن المغرب الدولة الأمة ذات التاريخ العريق لا تحشر نفسها في إعطاء الدروس والحكم الملغومة.
إن فرنسا كذلك تشهد حركات انفصالية من كورسيكا إلى كاليدونيا الجديدة، حيث أيقظت سنة 2022 مطالب الانفصال في عدد من المناطق الفرنسية، إذ عرفت جزيرة كورسيكا احتجاجات واسعة تخللتها مطالب بالاستقلال، ردا على اغتيال ناشط محلي في أحد السجون الفرنسية، وقبلها خرج سكان الأنتيل إلى الشارع تنديدا بإجراءات كورونا، ولا يزالون يحتجون طلبا للإنصاف في قضية التسميم الجماعي بمبيد «الكلورديكون»، كما استمر ضغط الحركات الاستقلالية في «كاليدونيا الجديدة» المنددة بجريمة التسميم الإشعاعي جراء التجارب النووية التي أجرتها فرنسا في أراضيهم ،كما أحيا هذا الزخم مطالب نشطاء منطقة بريتاني الذين طالبوا الحكومة الفرنسية بإجراء استفتاء لتقرير مصيرهم.
هل سيكون من اللائق دعوة مجموعة من «الحكماء» للتدخل في شؤون دولة ذات سيادة، والبحث في وضعية حرية التعبير وحقوق الإنسان.. والنفخ في الرماد لتأجيج نار تأتي على الأخضر واليابس؟
وهل تقبل صحيفة «لوموند» مثلا دعوة أكاديميين وحقوقيين وصحافيين للبحث في الشروط والاجراءات التي أقرتها فرنسا في دول غرب إفريقيا، حيث أنشأت قبل خروجها عملة «الفرنك الإفريقي» وربطته بالفرنك الفرنسي، ثم الأورو، حيث يجري تداول هذه العملة اليوم في نحو 14 دولة إفريقية، كما أن 15 بنكا إفريقيا لها اتفاقيات ملزمة مع البنك المركزي الفرنسي، يحتفظ بموجبها هذا الأخير بودائع البنوك الإفريقية، حيث تلزم فرنسا شركاءها الأفارقة بإيداع 50% من احتياطاتهم من العملات الأجنبية لدى البنك المركزي الفرنسي الذي يتحكم في حجم السحوبات التي يجب ألا أن تتجاوز سقف 15% من الأصول المودعة! ناهيك عن الكثير من الأمثلة في هذا المجال.
إن دبلوماسية الابتزاز تحت غطاء أكاديمي، لن تجدي مع المغرب شيئا،لأنه يتطلع إلى علاقات أوضح تحترم سيادته وثوابته، وهو يتطلع إلى حل واقعي تحت رعاية الأمم المتحدة، وهو الأجدر بالسادة «الحكماء» مناقشته بهدوء وواقعية، انتصارا للشرعية والقانون الدولي. إنه مقترح الحكم الذاتي، الذي تعتبره منظمة الأمم المتحدة، حلا جديا وذا مصداقية، والذي يحظى بدعم واسع ومتنام للمنتظم الدولي والذي يعتبره الحل السياسي والنهائي لهذا الملف، أما الحنين إلى شروط مؤتمر الخزيرات، فتلك قصص من الماضي...