فجّر الصحفي الجزائري عبد الرؤوف حرز الله فضيحة مدوية تسلط الضوء على المشهد القاتم لحرية التعبير في الجزائر، بعدما كشف في مقطع مصور عن منعه من مغادرة البلاد دون أي قرار قضائي أو إشعار رسمي، في انتهاك صارخ للحقوق الدستورية.
هذه الواقعة، التي أثارت جدلا واسعا على مواقع التواصل الاجتماعي، كشفت مجددا كيف تحوّلت الجزائر في عهد الرئيس عبد المجيد تبون وقائد أركان الجيش السعيد شنقريحة إلى زنزانة جماعية تُخنق فيها الأصوات الحرة وتُلاحق فيها الكلمة الصادقة بالقانون والسلاح والتشهير.
صحفي تحت المنع.. بلا تهمة
حرز الله، صاحب 34 سنة من التجربة الصحفية ومدير مكتب قناة «الشرق» في الجزائر وباريس، تحدّث في مقطع فيديو عن تفاصيل المنع، مؤكدا أن القرار بلغه عبر مصادر غير رسمية، وأن السبب المزعوم يتعلق بـ«شبهة فساد»، رغم عدم توجيه أي استدعاء أو تهمة رسمية له.
وطالت الفضيحة وزير الاتصال نفسه، بعد نقل الصحفي عنه تصريحا مفاده أن «40 بالمئة من الجزائريين ممنوعون من السفر»، ما اضطره إلى إصدار بيان يتهم فيه الصحفي بترويج «معلومات مغرضة»، مهددا إياه باللجوء إلى القضاء.
وجاء في البيان أن الوزير محمد مزيان التقى فعلا بالصحفي عبد الرؤوف حرز الله خلال مراسم تسليم الاعتمادات لمراسلي الصحافة الأجنبية في 9 أبريل 2025، حيث دار بينهما حديث مقتضب، اشتكى خلاله حرز الله من منعه من مغادرة التراب الوطني، فرد عليه الوزير بأن الوقت والمكان غير مناسبان لمناقشة هذه المواضيع، مضيفا له « أنه لا داعي للقلق »، وفق نص البيان.
ووجّه نداء مباشرا للرئيس تبون لفتح تحقيق في القضية، دون أن يتلقى أي رد.
قمع ممنهج.. وتضييق مستمر
ليست قصة حرز الله إلا فصلا جديدا من سياسة ممنهجة لقمع حرية التعبير والصحافة في الجزائر، حيث تُعاني المنابر الإعلامية المستقلة من سحب التراخيص، وحرمانها من الإعلانات الحكومية، إلى جانب اعتقال صحفيين ومحاكمتهم بتهم مطاطة كـ«نشر أخبار كاذبة» أو «المساس بالأمن الوطني».
ويرى مراقبون أن الوضع تفاقم أكثر بعد تمرير قانون الإعلام الجديد سنة 2023، الذي وُصف بأنه سيف مسلط على كل من يخرج عن الرواية الرسمية.
وفي تقريرها السنوي الأخير، أكدت منظمة « مراسلون بلا حدود » تراجع الجزائر إلى المرتبة 126 من أصل 180 دولة في مؤشر حرية الصحافة لعام 2025، ما يعكس بيئة عدائية متزايدة تجاه الإعلام المستقل.
سجن كبير للنشطاء والمعارضين
أما في ما يتعلق بحقوق الإنسان، فقد تحولت السجون الجزائرية إلى مكان مخصص لاحتجاز كل من يرفع صوته ضد النظام. إذ تؤكد تقارير دولية أن أكثر من 220 سجين رأي يقبعون حاليا خلف القضبان، من بينهم نشطاء سياسيون بارزون إلى جانب محامين، ومدونين، وأعضاء أحزاب معارضة.
إقرأ أيضا : البرلمان الأوروبي يدين القمع في الجزائر ويطالب النظام بالإفراج عن سجناء الرأي
القوانين التي يُفترض أن تحمي الحريات، تُستخدم اليوم في الجزائر كسلاح قمع، وعلى رأسها قانون مكافحة الإرهاب الذي توسّع تعريفه ليشمل حركات سياسية سلمية مثل «رشاد» و«الماك»، في مخالفة صريحة للمعايير الدولية.
ازدواجية السلطة
ما يزيد الوضع تعقيدا هو ازدواجية الخطاب الرسمي؛ ففي حين يدعو الرئيس تبون في خطاباته إلى «الحوار الوطني» و«الانفتاح السياسي»، تقوم أذرع الدولة الأمنية والقضائية، بإشراف غير مباشر من قائد الأركان شنقريحة، بتكميم الأفواه وشيطنة كل صوت معارض.
حتى البرلمان، الذي يُفترض أن يكون سلطة رقابية، عارض مؤخرا التصديق على مقترح كان يهدف إلى ضمان عدم منع أي مواطن من السفر إلا بقرار قضائي معلل، ما يكشف التواطؤ المؤسساتي في خنق الحريات.
إدانات دولية تتصاعد
لا تتوقف الانتقادات الحقوقية ضد الجزائر، حيث أكدت منظمات دولية مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية أن الجزائر تستخدم القضاء كأداة لتصفية الحسابات مع المعارضين.
وتشير التقارير إلى تصاعد غير مسبوق في الاعتقالات قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة في سبتمبر 2024 وبعدها مباشرة، إلى جانب حملات رقابة على الإنترنت، وتضليل إعلامي، وتشغيل جيوش إلكترونية هدفها تشويه المعارضة وبث الفتنة.
نهاية الحلم الديمقراطي
لقد وُلد الحراك الشعبي في 2019 حاملاً أحلام الجزائريين في تغيير ديمقراطي سلمي، لكنه تحول في عهد تبون وشنقريحة إلى كابوس من الملاحقة والتضييق، حيث لا مكان اليوم لصوت حر أو صحفي مستقل أو ناشط مدني.
إن الجزائر، التي تحاول تلميع صورتها أمام الخارج، أصبحت على أرض الواقع دولة تُدار بعقلية أمنية، تُجّرم التعبير، وتُطارد الحلم، وتُدير مؤسساتها كأنها ثكنة مغلقة.