ويتضح أنه من الطبيعي جدا أن تبقى العلاقات بين المغرب وبلدان كثيرة في القارة جيدة ومتواصلة رغم تغيير الأنظمة، ومن نتائج ذلك فشل محاولات خصوم الوحدة الترابية، إذ توهمت الجزائر وصنيعتها « البوليساريو » أن تغيير الأنظمة في بعض دول القارة يمكن أن يكسبهما مناصرين جدد لكنهما لم يجنيا شيئا.
وتؤكد المحاولات التي باءت بالفشل أن معاداة المغرب كانت وراء الغشاوة الواضحة للخصوم الذين لم يستوعبوا التحولات التي شهدتها إفريقيا، وأن الأمر يرتبط أساسا بسياسات الدول تجاه علاقاتها، إذ تراعى مصالح الشعوب، والاقتصادات الوطنية.
ويعود الفضل في ما سبق الإشارة إليه الجيو – استراتيجية التي يتبناها المغرب في الألفية الحالية تجاه إفريقيا، والمرتكزة أساسا على التعاون في إطار جنوب ـ جنوب والتضامن تندرج في إطار التعاون جنوب – جنوب، وترتكز على مبادئ التضامن ومراعاة المصلحة المشتركة.
ويبقى الالتزام الإفريقي للمغرب والتضامن حاضرا باستمرار، وهو خير شاهد على صدق النوايا، والرغبة الجامحة في المواجهة المشتركة للتحديات التي تعترض مسار القارة.
ويعد المغرب علامة مميزة في القارة الإفريقية، إذ يرتبط انطلاقا من الألفية الحالية مع الأشقاء بما يناهز ألف اتفاقية، جرى تعزيزها بالجولات الإفريقية للملك محمد السادس، التي تميزت بالتنويع، على أساس التنمية المشتركة، وهذا من بين العوامل التي تقف وراء استدامة العلاقة بين المغرب وقادة وشعوب القارة الإفريقية.
الباحث والأكاديمي المغربي وأستاذ القانون الدولي خالد شيات
يرى خالد شيات، الباحث والأكاديمي المغربي، وأستاذ القانون الدولي في جامعة محمد الأول بوجدة أن المغرب وضع « سياسته الإفريقية في سياق يهم جانبين، أولا: الخصوصية الإفريقية، وخصوصية الأنظمة والمجتمعات والهيئات والفئات وكل المكونات الاجتماعية والثقافية الحضارية الإفريقية، والسياسية أيضا.
ثانيا: احترام الجانب المرتبط بمجالات ذات طبيعة جيوسياسية أو دولية باعتبار أن المغرب فاعل يتدخل في إفريقيا لاعتبارات مرتبطة بسياقات جيوسياسية دولية، إذ هناك قوى فاعلة مثل الصين وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية إلى غير ذلك.
وفي إطار الخاصيتين سالفتي الذكر وضع المغرب سياسة ناجعة تقوم على ما هو اقتصادي، وما هو نفعي، وما هو مصلحي، أي تبادل المصالح مع هذه الدول، التي لديها مقومات كبيرة جدا في إطار الندية والاحترام، والمشاريع ذات طبيعة تدخل في هذا الفضاء الحضاري، الذي ينتمي إليه المغرب وهو القارة الإفريقية ».
وأوضح شيات أنه « في عموم ما نسجه المغرب مع الدول الإفريقية يحترم الخصوصيات، والتغييرات السياسية التي تقع في هذه الدول، فإفريقيا أصلا هي قارة التغييرات المفاجئة، غير المنضبطة للقيم الدستورية الانتقالية الديمقراطية، إذ غالبا ما تحدث انقلابات، وبالتالي فهذا المعطى حاضر في نسج هذه السياسة ووضعها ».
وأكد الأستاذ الجامعة أن « الأنظمة السياسية تأتي مضغوطة بهواجس ذات طبيعية تنموية، والمغرب يقدم هذه الحلول للدول، وإن كانت أنظمتها في أي اتجاه. هذا هو الأمر يراعيه المغرب، كما يراعي المشاريع المندمجة التي تدمج مجموعة من الدول الإفريقية في مشاريع متكاملة لأن التكامل يؤدي إلى السلم والتعاون بين هذه الدول كما الحال بالنسبة لمشروع أنبوب الغاز الرابط نجيريا والمغرب في اتجاه أوروبا الذي سيمر عبر مجموعة من الدول الإفريقية، وسيساهم في تنمية تلك الدول طاقيا، وما يستتبع ذلك على المستوى الفلاحي والمستويات المنعكسة على الجانب الاجتماعي والتنموي الإنساني الذي يحد من ظواهر أخرى كالتطرف العنيف والتغيرات المناخية وغيرها من التحديات التي تواجهها إفريقي.
هذه السياسة تقوم على هذا الأساس، وأعتقد أن هناك تحديات مع التحولات الكثيرة التي تحدث بسبب الانقلابات قاريا يبدو أن لها نزعة إفريقية خالصة، وتجد أسسها فكريا ونظريا في تصورات مجموعة من المفكرين الذين يرون أن إفريقيا يجب أن تكون للأفارقة، وليس لغيرهم وبالتالي هذا الأمر إيجابي بالنسبة للمغرب ويتطلب الانخراط أيضا على المستوى الثقافي والإنساني والاجتماعي مع الفضاء الإفريقي لترسيخ فكرة دولة تنتمي إلى القارة الإفريقية، وليس دولة تتعامل على المستوى المصلحي مع هذه القارة، والنجاح يرتبط بالمقومات التي ذكرتها ».
الباحث في الدراسات السياسية الدولية بوسلهام عيسات
يقول بوسلهام عيسات الباحث في الدراسات السياسية الدولية: « إن دستور المملكة المغربية لسنة 2011 تضمن مجموعة من المرتكزات التي تؤطر السياسة الخارجية للمغرب التي يقودها جلالة الملك محمد السادس، إذ أكدت ديباجة الدستور الانتماء للمغرب الكبير، والتزام المغرب بالعمل على بناء الاتحاد المغاربي كخيار استراتيجي.
فضلا عن التنصيص على تعميق أواصر الانتماء إلى الأمة العربية والإسلامية وتوطيد وشائج الأخوة والتضامن مع شعوبها الشقيقة، وكذا تقوية علاقات التعاون والتضامن مع الشعوب والبلدان الافريقية، ولاسيما مع بلدان الساحل وجنوب الصحراء، وتعزيز روابط التعاون والتقارب والشراكة مع بلدان الجوار-الأور ومتوسطي، وتوسيع علاقات الصداقة، والمبادلات الإنسانية والاقتصادية والعلمية والتقنية والثقافية مع كل بلدان العالم، وتقوية التعاون جنوب-جنوب ».
وأوضح لـle360 أنه « بتحليل منطوق ديباجة دستور المملكة، يظهر جليا أن السياسة المغربية تجاه البلدان الأفريقية الشقيقة، تنطلق من إرادة ملكية متبصرة ترنو إلى تعزيز الشراكات الاستراتيجية، التي ترمي إلى تقوية التعاون جنوب- جنوب وفق رؤية دبلوماسية واضحة وفعلية للتعاون، تساهم مجموع الدول الافريقية بشكل جماعي في بناءها من أجل افريقيا آمنة مستقرة ومزدهرة ».
ومضى يقول « إن منجز الدبلوماسية المغربية اليوم تجاه افريقيا، يجسد ما عبر عنه الملك في خطابه الموجه إلى القمة 29 لقادة دول وحكومات الاتحاد الافريقي بأديس أبابا في سنة 2017، حينما أكد « ... بأن المغرب يريد أن يساهم في إقلاع إفريقيا جديدة: افريقيا قوية وجريئة، تدافع عن مصالحها، وافريقيا مؤثرة على الساحة الأممية .... »
وأوضح حضور المغرب في افريقيا « يتجسد بمصداقية شراكاته وبمشاركة خبراته مع الدول الافريقية الصديقة، وبتصوره في تنزيل « النهج المحمدي للسياسة الخارجية تجاه افريقيا »، ونقصد بذلك الرؤية والنهج الملكي لتعزيز التعاون المشترك التي تتخذ أشكالا وأبعادا عديدة للتعاون المشترك التي يمكن تقديمها كما يلي:
أولا: السياسة الروحية والدينية
« يعتبر النهج الروحي والديني إحدى أهم العوامل التي تستند إليها الدبلوماسية المغربية في علاقاتا مع الدول الافريقية، من خلال دور « إمارة المؤمنين » التي تعتبر فاعلا في صنع القرار السياسي الخارجي تجاه افريقيا، إذ تلعب الزوايا دورا مهما في نشر الدين الإسلامي القائم على المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية (الطريقة القادرية والتيجانية...) تمتد وتنشط في عدد من الدول الافريقية ».
ويؤكد أنه « يمكن في هذا السياق استحضار الرسالة السامية الموجهة إلى المشاركين في الدورة 19 للأيام الثقافية التيجانية حيث أكد الملك « ...إن مما يتميز به البلدان الشقيقان.. المغرب والسينغال هو أن الإسلام قد استقر بهما استقرارا أمينا مكينا صاحبته معاني الوحدة والأخوة واجتماع الشمل وترصيص الصف أمام العواصف والزوابع... » كما أكد « إننا لنحمد الله عز وجل أن وفقكم إلى تنظيم هذه الأيام الثقافية المباركة معربين لكم عن بالغ تأثرنا وجزيل شكرنا على ما وقع عليه اختياركم من جعل موضوعها مركزا على تأبين روح والدنا جلالة المغفور له الحسن الثاني قدس الله روحه مؤكدين لكم على أننا سنواصل دعمنا لهذه الطريقة السنية وعنايتنا واهتمامنا بمشايخها ومقدميها... ».
ويوضح الباحث عيسات أنه يظهر من منطوق الرسالة الملكية، دور إمارة المؤمنين وعلاقتها بالدول الافريقية في توحيد الصف أمام التطرف العنيف، ونشر قيم الوسطية والاعتدال، وكذا دورها في دعم الطرق السنية والعناية بمشايخها ومقدميها، لذلك يمكن القول إن نقل التجربة المغربية في مجال الأمن الروحي إلى افريقيا تأتي في سياق رؤية ملكية تتوخى تقوية علاقات التعاون الثنائي والمتعدد الأطراف مع دول القارة الافريقية، فضلا عن المساهمة في مواجهة خطاب التطرف والسعي إلى تعزيز السلم والأمن بمنطقة الساحل وجنوب الصحراء وغرب افريقيا.
وتتجسد هذه المجهودات في إطار الدبلوماسية الدينية، التي تتجلى في التكوين الديني للعلماء الأفارقة من خلال دور مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة التي تسعى إلى توحيد وتنسيق جهود العلماء المسلمين بالمغرب وباقي الدول الافريقية، فضلا عن إحداث معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين الذي تناط به مهمة تكوين وتأهيل واستكمال تكوين القيمين الدينين الأجانب. ويظهر بأن هذه المؤسسات تسعى إلى صيانة الهوية الدينية للشعوب الافريقية والتصدي للمظاهر العنيفة للتطرف والظلامية في منطقة الساحل والصحراء ».
وخلص الباحث إلى أنه « يظهر أن هذا التأطير الديني ساهم نوعيا في مواجهة التطرف العنيف بالقارة، سيما أن دول الساحل كانت ولازالت مرتعا لعدد من الجماعات المتطرفة (القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي/ جماعة نصرة الإسلام والمسلمين وحلفائهم وتنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى)، التي كانت تتخذ من مخيمات البوليساريو التي تدعمها الجزائر قاعدة خلفية لها ومركزا لتدريب المقاتلين كما تفيد بذلك مجموعة من التقارير، وهو ما يفسر من جهة تبني جبهة « البوليساريو » أخيرا « سلوكا جهاديا إرهابيا » باستهداف عدد من المدن المغربية بالأقاليم الجنوبية والاعتداء على المواطنين والمنشآت المدنية ».
ثانيا: سياسة إصلاح المؤسسات الافريقية وتطويرها
في هذا الصدد يؤكد بوسلهام عيسات « أن عودة المغرب إلى بيته الافريقي، كما عبر عن ذلك جلالة الملك « ... إن الدعم الصريح والقوي الذي حظي به المغرب لخير دليل على متانة الروابط التي تجمعنا... كم هو جميل هذا اليوم، الذي أعود فيه إلى البيت بعد غياب طويل، كم هو جميل هذا اليوم، الذي أحمل فيه قلبي ومشاعري إلى المكان الذي أحبه، فإفريقيا قارتي، وهي أيضا بيتي... »، مكنته (العودة) من تفكيك الأطروحة الانفصالية الواهية، إذ تم وضع قادة وشعوب الدول الافريقية الصديقة أمام حقيقة تاريخ وجغرافية الأقاليم الصحراوية المغربية، بما انعكس إيجابا بتراجع عدد الدول التي سحبت اعترافها بالجمهورية الوهمية. مع التأكيد على واقعية ومصداقية وجدية مبادرة الحكم الذاتي كأساس لحل قضية الصحراء المغربية ».
وأضاف أن " العودة القوية للمملكة المغربية لمنظمة الاتحاد الافريقي ساهمت في الدفاع عن مصالح الحيوية من الداخل، ومواجهة خصوم الوحدة الترابية، ولاسيما دور الجزائر، التي ظلت وما زالت تحاول إقناع عدد من الدول الافريقية بالأطروحة الانفصالية الوهمية بتنسيق مع جنوب افريقيا. غير أنه ما فتئت أطروحة والانفصال ومن يحتضنها تتعرض للاندثار بإقرار الولايات المتحدة الاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه، وتأكيد دول من أفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية على جدية ومصداقية مقترح الحكم الذاتي وافتتاح قنصلياتها بمدينتي العيون والداخلة ».
وشدد على « مساهمة المملكة المغربية في الإصلاح المؤسساتي داخل الاتحاد الافريقي كقوة اقتراحية بتحديد قواعد الاشتغال ووضوح الأجندات الدبلوماسية، بعدما كان يشتغل الاتحاد وهيئاته الفرعية بطرق غير واضحة وغير دقيقة، ولاسيما مجلس الأمن والسلم الذي سعت المملكة بمعية الدول الإفريقية خلال عضويته إلى تبني مقاربات ومعايير واضحة للاشتغال ترتكز على تعزيز شفافية أساليب العمل وضمان مصداقية مسلسل صنع القرارات داخل المجلس. وإعطاء دينامية جديدة لمفهوم الدبلوماسية الوقائية، خصوصا في شقها المتعلق بالوساطة باعتبارها أداة ناجعة تساهم في إيجاد حلول سلمية ودائمة للأزمات التي تعاني منها القارة الإفريقية ».
وأوضح أن الثقة والمصداقية التي يحظى بها المغرب داخل الاتحاد الإفريقي، تعود بالأساس « إلى دوره في حفظ وتعزيز السلم والأمن بالقارة الإفريقية، عبر المساهمة في المغرب فاعلا أساسيا في مجال حفظ السلم والأمن بإفريقيا العمليات الأممية لحفظ السلم والامن بإفريقيا، الممتدة منذ ستينات القرن الماضي، والتي شملت مجموعة من البلدان كالصومال وجمهورية الكونغو الديمقراطية وجنوب السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى وكوت ديفوار، جعلت المغرب فاعلا أساسيا في مجال حفظ السلم والأمن بإفريقيا. مع التزامه الدائم باحترام مبادئ حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، ولعل ذلك ما جعله يترأس هذه الهيئة ثلاث مرات في شتنبر 2019 خلال ولايتها الأولى في هذا المجلس (2018-2020)، وفي أكتوبر 2022 في إطار الولاية من ثلاث سنوات (2022-2025)، أما الولاية الثالثة فتشمل شهر فبراير (2022-2025) ».
وأكد بوسلهام عيسات أنه بالنظر إلى أهمية هذه المقاربة المغربية « سعت الجزائر إلى تقويض المجهودات المغربية دون فائدة تذكر بالنظر إلى عدم فعالية الفعل الديبلوماسي الجزائري الذي يغلف « بعقيدة عسكرية » تكن العداء للمغرب، وتسعى إلى تسفيه وشيطنة أدوراه المهمة في إفريقيا، ونستحضر في هذا السياق سعيها إلى التأثير على ألمانيا بعدم دعوة المغرب لمؤتمر برلين الأول، لكن سرعان ما فشل ذلك بدعوته لمؤتمر برلين الثاني، وكذلك محاولتها الركوب مرة أخرى على القضية الليبية بعد زيارة وزير خارجيتها لليبيا، والتباحث في موضوع الحل السياسي للأزمة الليبية، علما أن الجزائر يتسم سجلها التاريخي في مجال الوساطة « بالفشل الذريع »، ونستحضر في هذا السياق سابقتها الدبلوماسية في مالي والنيجر، خصوصا بعدما أعلن وزير خارجية مالي أن سبب أزمة بلاده مع الجزائر سببها « عدم احترام سيادة مالي والتدخل في شؤونها الداخلية »، وكذا إعلان المجلس العسكري إنهاء اتفاق الجزائر للسلام لسنة 2015، وتشكيل لجنة لتنظيم حوار سلام وطني.
ورغم من هذه المحاولات، فإن الأطراف الليبية تعبر عن ثقتها في مسلسل مشاوراتها ولقاءاتها بالرباط، واقتناعها بجدية النتائج السياسية التي يتم التوصل إليها بالمغرب، والتي تأتي في إطار الحياد الإيجابي والسعي إلى البحث عن حل مقبول ومتوافق عليه من قبل جميع الأطراف ».
ثالثا: سياسة الاندماج الاقتصادي والتنمية
يؤكد الباحث المغربي بوسلهام عيسات أن « نهج التنمية الاقتصادية في السياسة الاقتصادية للمملكة المغربية التي تقوم على مرتكز دستوري يتجسد في تقوية التعاون جنوب-جنوب وفق مقاربة رابح-رابح، بجعل الإنسان الافريقي (الرأسمال البشري) أساسا وشريكا في التنمية وفي صميم اهتماماتها وأهدافها، إذ سبق أن أكدت الرسالة الملكية السامية للقمة الفرنسية الافريقية حول السلم والأمن في سنة 2013 « ... إن أي استراتيجية هادفة لتحقيق الاستقرار والتنمية تفقد جدواها ومداها ومشروعيتها إذا لم تجعل الإنسان في صلب أهدافها... ».
ومن تم فإن توزيع الملفات الدبلوماسية على مجموعة من الفاعلين ساهم في إعادة تنظيم ضوابط الدبلوماسية الاقتصادية بمفهومها الحديث، حيث أكد جلالته في الرسالة السامية الموجهة للمشاركين في ندوة بمناسبة اليوم الوطني للدبلوماسية المغربية « ... فظهر فاعلون جدد يساهمون في هذه الدبلوماسية الاقتصادية من قبيل ظهور دور الجامعات المحلية، والمنظمات غير الحكومية والشركات، بل وأصبح دور هؤلاء الفاعلين الجدد يتعاظم أكثر فأكثر على الساحة الدولية. ومع أن هؤلاء الفاعلين ليسوا مفوضين مباشرة للتدخل في مجال الدبلوماسية الاقتصادية، إلا أنهم أضحوا مؤثرين وبشكل كبير بالعلاقات المشتركة المغربية... ».
وذكر عيسات « أن الزيارات الملكية المنتظمة لدول افريقيا أسست لدبلوماسية اقتصادية قوية، سمحت بوضع الإطار القانوني الملائم لتطوير علاقات الاستثمار والأعمال بين الأطراف، وكذا تنويع مجالات التعاون. ومن تم فإن الاستراتيجية الاقتصادية التي طورها المغرب تجاه القارة الأفريقية هي تجسيد للرؤية الملكية التي تدعو إلى التنمية المشتركة في إفريقيا في مختلف المجالات الرئيسية من قبيل الأمن الغذائي والبنية التحتية والخدمات البنكية والمالية والطاقات المتجددة والنمو الأخضر(...) ».
وأكد أن « العلاقات الاقتصادية المتينة القائمة على المصداقية والثقة التي ترتبط بين المغرب وشركائه الأفارقة، ساهمت في مأسسة التعاون وتعزيز الالتزام الثنائي والمتعدد الأطراف حتى في ظل عدم استقرار بعض الأنظمة السياسية جراء تغيير في الأنظمة السياسية أو حدوث انقلابات أو غيرها من الأحداث، لأن طبيعة العلاقات هي علاقات قائمة في إطار المصالح المشتركة بين الدول ولا تَرتَهنُ بوضعِ أو مكانة الأشخاص داخل السلطة. ولعل طبيعة هذه العلاقات المتينة، هي ما يقوض مناورات بعض الدول التي تعادي المصالح المغربية بما في ذلك الجزائر، التي تحاول تبني سلوك دبلوماسي يحاكي التحركات المغربية سواء تعلق الأمر بعلاقات اقتصادية أو مشاريع إقليمية مشتركة يكون المغرب طرفا فيها، عبر السعي إلى استدراج الدول الافريقية لمشاورات ولقاءات لمناقشة تصورات وقضايا « وهمية » سرعان ما تندثر، أو حتى عقد مؤتمرات « صورية » بدون أجندات فعلية واقعية، بشكل يوحي بأننا أمام « سلوك مضاد » قائم على ردود أفعال عشوائية »، يغيب عنها منطق الاتزان والحكمة واللياقية التي تتأسس عليها الأعراف الدبلوماسية ».
واستحضر في هذا السياق، « رد الفعل الدبلوماسي السريع للخارجية الجزائرية، بعد استجابة دول الساحل (مالي- النيجر- تشاد- بوركينافاسو) للمبادرة الملكية لتمكين دول الساحل من ولوج المحيط الأطلسي، وتضمين البيان الختامي للاجتماع الوزاري اتفاق وزراء خارجية بوركينا فاسو ومالي والنيجر وتشاد، على إنشاء فريق عمل وطني في كل بلد من أجل إعداد واقتراح أنماط تنفيذ هذه المبادرة، ووضع اللمسات الأخيرة في أقرب الآجال على المقترحات التي ستعرض على النظر السامي لجلالة الملك محمد السادس، وأشقائه رؤساء دول بوركينا فاسو ومالي والنيجر وتشاد.
فبعد ثلاثة أيام من الاجتماع صدر بلاغ عن وزارة الخارجية الجزائرية يفيد بلقاء وزير خارجيتها مع وزير خارجية النيجر يفيد بأن المحادثات تركزت حول « تقييم علاقات التعاون بين البلدين في مختلف المجالات، لاسيما الطريق العابر للصحراء لما له من دور في فك العزلة وتنمية منطقة الساحل برمتها ». وهو السلوك الذي يفيد بمحاكاة الدبلوماسية الجزائرية للمبادرات المغربية، فضلا عن قيامها بردود أفعال تسعى إلى التخفيف من ثقل الدبلوماسية المغربية ومن مبادراتها الخلاقة التي أضحت تشكل لها حرجاً كبيرا على المستوى الداخلي ».
وختم أنه « يستخلص مما سبق أن المبادرة الملكية بتمكين دول الساحل من الولوج للساحل الأطلسي تعتبر أكبر تجسيد لروح التعاون جنوب- جنوب ولدور المملكة المغربية في تنمية الفضاء الإقليمي والنهوض به، لتجاوز كافة معيقات التنمية والهشاشة التي تجعل شعوبها عرضة للارتماء في حضن التطرف والانفصال والارهاب الذي يهدد الأمن والسلم الإقليمي »، لافتا إلى أن حقوق دول الساحل في البحر « تبعا لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار كدول حبيسة لا تشمل إلا الحق في الإبحار في أعالي البحار الذي يصعب عليها الولوج إليه في غياب اتفاقيات وتعاون وشراكة مع دول بحرية، لكن المبادرة التي أعلن عنها خلال الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى 48 للمسيرة الخضراء أشمل من ذلك بكثير، حيت يؤسس لتمكينها من ولوج المحيط الأطلسي وكذلك من تمكينها من استعمال البنية التحتية المغربية سواء تعلق الأمر بالبنية التحتية المينائية أو السككية والطرقية ».
وأوضح « أن التنسيق الافريقي الأطلسي كأفق (الاجتماعات الوزارية للدول الافريقية الأطلسية) يجيب عن روح المبادرة، ويشكل أرضية هامة لمأسسة التعاون الافريقي الأطلسي وإنجاح خط أنبوب الغاز نيجيريا-المغرب، الذي سيساهم في تحقيق تنمية المجال والإنسان لمجموع الدول التي تطل على المحيط الأطلسي، وكذا دول الساحل ووسط افريقيا.
فضلا عن مساهمة ذات التنسيق الأطلسي في التنزيل المشترك للاتفاق المبرم في إطار اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار بشأن حفظ التنوع البيولوجي البحري في المناطق الواقعة خارج حدود الولاية الوطنية واستخدامه على نحو مستدام، والإسهام في تحقيق نظام اقتصادي دولي عادل ومنصف يراعي مصالح واحتياجات البشرية كافة، ولاسما المصالح والاحتياجات الخاصة للدول النامية سواء كانت ساحلية أو غير ساحلية ».