آخر فصول المأساة الكوميدية في الجزائر جاءت من ولاية سطيف، ففي مشهد لا تنقصه سوى موسيقى أفلام الجريمة، أسدلت محكمة سطيف، اليوم الثلاثاء 11 مارس 2025، الستار عن واحدة من أغرب القضايا التي هزّت الرأي العام الجزائري، حيث قضت المحكمة بسجن المتهمين الرئيسيين خمس سنوات، بينما أدانت المتورطين في نقل اللحوم المحظورة بسنتين حبسا.
وعقب صدور هذه الأحكام، سارع الإعلام الرسمي لتمجيد «يقظة الأجهزة الأمنية» التي أطاحت بهذه العصابة. لكن مهلا.. أليست هذه الأجهزة نفسها التي فشلت في منع انتشار هذه التجارة أصلا؟ ألم تكن تلك اللحوم تجد طريقها إلى الموائد الجزائرية منذ سنوات دون أن تحرّك السلطات ساكنا؟
لكن الحيلة لم تنطل على عموم الشعب الجزائري، الذي فطن للمحاولة البائسة لترميم الثقة المهزوزة بين المواطن والنظام الدكتاتوري المستولي على الحكم، والذي يعي جيدا بأن القضية أعمق مما تبدو عليه لأنه لا يكفي الحكم على بضعة جزارين فاسدين لإيقاف الفساد الذي ينخر المجتمع؟
تواطؤ مع مافيات الفساد
المفارقة أن النظام الدكتاتوري الذي لا يتسامح مع حرية التعبير أو الاحتجاج السلمي، كان كريما ومتسامحا بشكل غريب عندما سمح منذ عام 2019 باستيراد لحوم الحمير والبغال والخيول، مبررة القرار بالحاجة إلى توفير طعام مناسب للحيوانات المفترسة في حدائق الحيوانات. لكن المفاجأة أن هذه اللحوم لم تصل إلى الأقفاص، بل إلى أطباق المواطنين الذين دفعوا ثمنها وهم يظنون أنهم يتناولون لحما طازجا!
وما زاد الطين بلة أن بعض الزوايا الدينية، التي تقدم الفتاوى الشرعية على المقاس، خرجت لتُطمئن الشعب بأن استهلاك لحوم الحمير «حلال»، وكأنها محاولة لإعداد الرأي العام لـ«الوجبة القادمة»!
وبينما انشغلت الأجهزة الأمنية بمطاردة الناشطين السياسيين وقمع المعارضين، كانت العصابات تستغل الفراغ الرقابي وتحول بعض المطاعم إلى « سيرك غذائي » يضم أصنافا لا تخطر على بال المستهلك. هل كانت هذه لحظة « تمكين اقتصادي » من نوع جديد؟ أم أن النظام قرر أن يمنح المواطن وجبات بروتينية بديلة نظرا لارتفاع أسعار اللحوم الحقيقية؟!
إقرأ أيضا : كارثة صحية في الجزائر.. ضبط عشرات الحمير المذبوحة في طريقها للاستهلاك في رمضان!
الطريف أن السلطات الجزائرية بعد ضبط هذه اللحوم المشبوهة لم تعر أي اهتمام للأسباب التي سمحت بانتشار هذه التجارة في المقام الأول، بل سارعت إلى تهنئة نفسها على « المجهودات الجبارة » في الكشف عن الجريمة.
الحقيقة أن النظام الجزائري، الذي يدّعي حماية الشعب من المخاطر، هو نفسه الذي سمح لهذه الكارثة بالتفشي. فبينما ينشغل الجيش والمخابرات بتكميم أفواه المعارضين وقمع الحريات، يُترك المواطنون فريسة لغشّ غذائي خطير، تتواطأ فيه مافيات الفساد مع مسؤولي الرقابة الصامتين عن هذه الجريمة.
أما المواطن الجزائري، فما عليه سوى مواصلة مسيرة التأقلم مع الواقع الجديد: قمع سياسي، انهيار اقتصادي، ومائدة رمضانية قد تحتوي على مفاجآت بيولوجية غير متوقعة. فبينما يوزع النظام الشعارات، توزع العصابات لحوم الحمير والبغال.. وتستمر المسرحية.
نظام يعامل شعبه كقطيع!
في ظل توالي فضائح نظام الجنرالات، لا يسع المواطن الجزائري إلا أن يتساءل: أين كانت السلطات قبل تفشي هذه الظاهرة؟ لماذا لا يتم الكشف إلا عن « أكباش فداء » بعد انتشار اللحوم غير الصالحة للاستهلاك في الأسواق؟ أليس من الغريب أن يتم ضبط عشرات المذابح السرية كل عام، بينما لا يُحاسب المسؤولون عن فشل الرقابة؟
إن الفضيحة ليست فقط في اكتشاف لحوم الحمير، بل في النظام الذي سمح بها، ثم تظاهر ببطولة زائفة حين كشف عنها. وبينما يستمر إعلام العسكر في تسويق الشعارات الرنّانة حول حماية « الأمة »، يبقى المواطن الجزائري متروكا لمصيره، يتذوق طعم الفساد مع كل وجبة، دون أن يدري إن كان ما يأكله صحي أم مُضر.. لذلك يبدو أن السؤال الحقيقي ليس هو: « كيف وصلت لحوم الحمير إلى الأسواق؟ »، بل « هل يجرؤ النظام على منعها فعلا؟ »!