منذ سنوات، يستثمر النظام الجزائري في الخطاب المعادي لإسرائيل، ويوظف القضية الفلسطينية في كل خطاب رسمي تقريبا، ليظهر بمظهر «المدافع الأصيل عن الحقوق العربية». لكنه، كما أثبتت الأرقام، لا يختلف عن غيره حين يتعلق الأمر بالربح والتبادل التجاري.
وبينما يتهم الآخرين بـ«الانبطاح»، يُخفي في جيبه صكوك صفقات مشبوهة، ويدير علاقات اقتصادية تضعه في صدارة الدول العربية المصدّرة لتل أبيب.
أرقام تكذب الشعارات
بيانات رسمية، نشرها مركز التجارة الدولية (ITC) ومنصات اقتصادية أخرى، فضحت هذه الازدواجية بوضوح. إذ صدّرت الجزائر إلى إسرائيل سنة 2022 منتجات بلغت قيمتها 21,4 مليون دولار، تشمل مواد طاقية ومركبات كيماوية، لا سيما الهيدروجين ومشتقات البترول.
- 2017: بلغت صادرات الجزائر إلى إسرائيل 30,5 مليون دولار
- 2020: صادرات جزائرية لإسرائيل بقيمة 9.77 مليون دولار
- 2021: ارتفاع الصادرات إلى 14.9 مليون دولار
- 2022: بلوغ الصادرات 21.4 مليون دولار
هذه الأرقام تضع الجزائر في المرتبة الرابعة عربيا من حيث حجم الصادرات إلى إسرائيل، بعد الإمارات، مصر، والأردن، وكلها دول أعلنت تطبيعها رسميا.
أما الجزائر، فهي ترفض الاعتراف بإسرائيل، لكنها تتاجر معها دون اعتراف، فيما يشبه «تطبيعا في الظل ، بعيدا عن الأعين وداخل شبكات التجارة غير المباشرة، وأحيانا عبر شركات وسيطة في أوروبا.
ازدواجية الخطاب
ما يُثير السخرية والغضب في الآن نفسه، هو أن النظام الجزائري لا يكتفي بإخفاء علاقاته التجارية مع إسرائيل، بل يُمارس نوعا من "الوصاية الأخلاقية" على بقية الدول العربية، فيتهمها بـ«الخيانة» كلما اقتربت من إسرائيل، بينما يمضي هو في صفقاته الاقتصادية بكل هدوء.
ففي حين أن المغرب، مثلا، أعلن صراحة استئناف العلاقات مع إسرائيل وفتح قنوات واضحة للتعاون الاقتصادي والدبلوماسي، اختار النظام الجزائري اللعب في الظل، مدّعيا الطهرانية السياسية، بينما يتربح من التجارة مع من يصفهم بأنهم «غاصبون» و«محتلون« .
وسبق للبرلمان الجزائري أن ناقش سنة 2021 مشروع قانون لـ« تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني« ، لكن المشروع لم يُعرض على التصويت، ولم يُفعّل، وظل حبيس الأدراج. وبحسب مراقبين، فإن الهدف من المشروع لم يكن قانونيا بقدر ما كان رمزيا وإعلاميا لطمأنة الداخل وشن هجوم على الخارج، خاصة بعد تطبيع المغرب.
منع الشعب من التضامن مع فلسطين
ولا يتوقف التناقض في الموقف الرسمي الجزائري عند حدود التعاملات التجارية مع إسرائيل، بل يمتد إلى سلوك النظام تجاه الشارع الجزائري نفسه. فبينما يُكثر من التصريحات المتحمسة لـ«دعم القضية الفلسطينية« ، يمنع في الوقت ذاته أي وقفات أو مظاهرات شعبية تضامنية مع غزة أو القدس.
وقد وثقت منظمات حقوقية محلية ودولية منع قوات الأمن للعديد من الوقفات، بل وتوقيف مشاركين فيها. وهذا السلوك يكشف أن ما يُزعج النظام ليس هو الاحتلال الإسرائيلي، بل إمكانية أن تتحول أي تظاهرة شعبية إلى حراك جديد ضد النظام العسكري يطالب بالتغيير السياسي.
وهكذا يتحول دعم فلسطين في الخطاب الرسمي إلى مجرد لافتة دعائية، في حين يُكبل الشعب الجزائري ويُمنع من التعبير عن تضامنه مع الفلسطينيين.
سياسة الكيل بمكيالين
في فبراير 2025، وخلال مقابلة مع صحيفة «لوبينيون» الفرنسية، صرّح الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بأن بلاده « قد تعترف بإسرائيل عند قيام دولة فلسطينية مستقلة »، في موقف بدا أكثر مرونة مما يعلنه الإعلام المحلي الموجّه، الذي يصوّر إسرائيل على أنها خط أحمر لا يمكن تجاوزه.
إقرأ أيضا : النظام الجزائري والتطبيع السري مع إسرائيل: أرقام تفضح النفاق السياسي للكابرانات
تصريح تبون لا يعكس فقط التحول التدريجي في نبرة النظام، بل يؤكد أن التطبيع بالنسبة للجزائر ليس مسألة مبدئية، بل « ورقة سياسية » تُستخدم متى اقتضت الحاجة، وتُخفى حين تتعارض مع المصالح الاقتصادية.
فلسطين مجرد لافتة
لا يبدو أن دعم الجزائر للقضية الفلسطينية يتجاوز حدود الخطاب والمزايدات السياسية. فرغم ضخامة ما يُصرف على الدعاية الإعلامية الرسمية في هذا الملف، تبقى فلسطين — في سلوك النظام — مجرد لافتة إيديولوجية تُستخدم لترسيخ شرعية داخلية مهزوزة، وتوجيه الأنظار عن الإخفاقات الاقتصادية والاجتماعية، وحتى للرد على خطوات خصوم إقليميين، خاصة المغرب.
أما حين يتعلق الأمر بالمصالح الاقتصادية والطاقة والموارد، فإن الخطوط الحمراء تُمسح، ويتم التعامل مع إسرائيل كأي شريك تجاري آخر، وإن من خلف ستار.
النفاق السياسي للنظام
إن من يتخذ موقفا صادقا مع القضية الفلسطينية لا يبيعه تحت الطاولة ولا يتربح منه في الخفاء. فالمبادئ، حين تُستخدم كوسيلة ضغط على الآخر بينما تُنتهك داخليا، تفقد قيمتها، وتتحول إلى شعارات فارغة.
وإذا كان النظام الجزائري يرفض التطبيع، فعليه أولا أن يقطع كل أشكال العلاقات التجارية التي تربطه بإسرائيل، وأن يقدم شفافية كاملة للرأي العام. أما أن يجرّم التطبيع سياسيا، ويُمارسه اقتصاديا، فذلك هو قمة النفاق السياسي.
وهكذا، يظل المثل الشعبي المغربي القائل «لحم الديب حرام ومرقتو حلال»، الأكثر تعبيرا عن هذا التناقض الصارخ، مع تحوير بسيط في المثل ليتناسب مع المقام: «إسرائيل حرام.. لكن أموالها حلال».








