حين طرح الفيلسوف الفرنسي سارتر سؤال « ما الأدب؟ » لم يكُن يهُمّه البحث عن مفهوم جديد للكتابة الأدبيّة وتاريخها وجمالياتها وأساليبها، بقدر ما كان يروم إلى الحفر عن ماهية الأدب ودوره في حياة الناس، وما ينبغي أنْ يكون عليه الأديب تجاه قضايا سياسية واجتماعية تطال العالم ككلّ. بعيداً عن ساتر وأطروحته الفكرية الهامّة، يُعتبر الأدب رأسمالاً رمزياً بالنسبة للشعوب والحضارات. إذْ هناك مجموعة من البلدان يتعرّف عليها المتلقي لا من خلال أبراجها وبحرها وأرضها، وإنّما مما كتبه الأدباء عنها، فبقيت تلك الكتابات شاهدة على عصور سحيقة، يرنو إليها المرء لمعرفة أخبار البلد وناسه.
إنّ أدب أمريكا اللاتينية ساهم إلى حدّ كبير في تقديم صورة عن متخيّل هذه البلدان والذي دفع العديد من الناس إلى زيارة العديد من هذه البلدان والتعرّف عن قرب على مبانيها وساحاتها وبيئتها ونمط تفكيرها. وهو الأمر نفسه الذي قادم مُترجم كتاب « الخبز الحافي » إلى اللغة اليابانية إلى زيارة مدينة طنجة والتعرّف عن قرب على الكاتب محمّد شكري والوقوف أمام حانات وأزقّة أصابت المترجم الأجنبي بالذهول أمام تواضع هذه العوالم. ليُجيبه شكري بأنّ الأدب لا يعكس الحياة الحقيقية بشكل واقعي وميكانيكي، بقدر ما يُجمّل الوقائع والأمكنة والفضاءات التي يكتب عنها، ويقودها إلى منعرجات تخييلية تُدهش القارئ.
حين نُفكّر في علاقة الأدب بوسائل التواصل الاجتماعي، لا يكاد المرء يعثر على دراسات نقدية تُفكّك جدلية هذه العلاقة التي تفرض غوصاً عميقاً في تفكيك هذه العلاقة وفهم مدى حدود تأثير وسائل التواصل الاجتماعي وروّاده على مفهوم الكتابة الأدبيّة وسُلطتها. يعتقد « الافتراضيون » أنّ الأدب عبارة عن كتابة استيهامية غرضها الترفيه والتعبير عن أحوال الذات. بهذه الطريقة يُروّج ملايين الافتراضيين إلى مؤلّفات بئيسة تُقرأ قبل النوم. إذْ نادراً ما يعثر المُتابع على كُتب تستحقّ القراءة والتأمّل. المرء يتعلّم من الكُتب الكبيرة التي تطرح أسئلة حقيقية تجاه الواقع الذي يعيشه فيه، بل وتُعلّمه كيفية التفكير في قضاياه وإشكالاته. إنّ السوشل ميديا تُؤثّر بقوّة على الأدب، وتجعله أدباً ينزع إلى الترفيه، أكثر من الترفيه.
يعشق رواد السوشل ميديا الأدب الخفيف الرومانسي الناعم الذي يُلامس الأحاسيس والعواطف وينبذ كل أدبٍ يُفكّر وينتقد ويكشف ويُعرّي. الأدب الخفيف يُفاقم البلاهة وُروّج لها على أساس أنّها أدب. في حين أنّ الأدب الحقيقي لا يُنشر داخل وسائل التواصل الاجتماعي، وإنّما داخل كُتب تُؤثّر في المجتمع وتُثير الزوابع وتُغضب السلطات. فحين نقرأ روايات محمد زفزاف ومحمّد شكري وأشعار عبد الله زريقة وعبد اللطيف اللعبي وغيرهم، نجد أنفسنا أمام أدب أصيل بلغته، قويّ بروحه وجريء على مستوى التخييل.
من أهمّ الأشياء التي نتعلّمها من الأدب هو مفهوم « الالتزام »، لا بوصفه مفهوماً سياسياً يُصبح فيه الأديب بوقاً للحزب أو جماعة إيديولوجية، بقدر ما يأتي الالتزام كنسق فكري وطريقة عيش، تجعلنا ندافع عن قيم وأفكار. لا علاقة تجمع اليوم في العالم بين الأدب والالتزام فقد ولى زمن الإيديولوجيا واليسار الذي كان فيه الأدب يخدم القضايا السياسية ويُدافع عن المنكوبين والمحرومين. بل أصبحنا اليوم أمام أدبٍ جديد لا تهُمّه القضايا، بقدر ما ينطلق أوّلاً من الذات الفردية أو من سياقات تاريخية مُترسّبة في فوانيس الذاكرة ومَسالكها.
بيد أنّ هذا التحوّل أُسيل عنه المداد الكثير حول وظيفة الأدب بمفهوم الالتزام، وقاد العديد من الأدباء إلى طرح مزيدٍ من الأسئلة حول هذه العلاقة. بل كشف التحول الرهيب الذي عرفه الأدب خلال القرن العشرين، بوصفه أدباً مُلتزماً لصالح أدب ترفيهي نادراً ما تُؤثّر فيه الأحداث التي تطال الوقع اليوم.
قدّم سارتر رؤية ثاقبة لمفهوم الأدب، بعدما في تكريس العلاقة بين الأديب والمفكّر. إنّ جوهر هذه العلاقة التي يُمثّلها صاحب مذهب الوجودية تتمثّل في كون المفكّر غدا يكتب أدباً وبأنّ هذا الأخير، يُمكن اعتباره مختبراً للتفكير أكثر من كونه عبارة عن أدب هاجس التخييل أو التسلية. بلور ساتر مفهوم جديداً للمُفكّر القادر على كتابة جديد، وهو الأمر، الذي نُعاينه في عدد من المفكرين المغاربة الذين كتبوا الرواية مثل عبد الله العروي وعبد الإله بلقزيز وبنسالم حميش وعبد الفتاح كيليطو وغيرهم من المفكّرين الذين كتبوا الرواية وجعلوها تسلك مسالك فكرية أخرى.