شكلت تصريحات تبون صدمة للجزائريين الذين اعتادوا على خطاب شعبوي رافض للتطبيع مع إسرائيل، واعتباره « خطًا أحمرًا » في السياسة الخارجية للبلاد. فلطالما قدّمت الجزائر نفسها كواحدة من الدول العربية الأكثر رفضا للتطبيع مع إسرائيل، مستخدمة هذا الخطاب كأداة دعائية لاستقطاب التعاطف الشعبي العربي والإسلامي.
وكان تبون نفسه قد وصف في وقت سابق اتفاقيات التطبيع التي أبرمتها دول عربية مع إسرائيل بـ »الهرولة غير المقبولة ». لكن تصريحاته الجديدة جاءت بعيدة كل البعد عن هذا الموقف الشعبوي المنافق، وهو ما أثار استغراب الأوساط السياسية الجزائرية قبل غيرها.
إذ أكد تبون في حواره مع « لوبينيون » أن الجزائر ستطبع علاقاتها مع إسرائيل «في اليوم نفسه الذي ستكون فيه دولة فلسطينية»، مشيرا إلى أن هذا الموقف «متسق مع مجرى التاريخ»، مستدلا بمواقف سابقيه الشاذلي بن جديد وعبد العزيز بوتفليقة.
غضب شعبي وغليان سياسي
عجت مواقع التواصل الاجتماعي منذ مساء الأحد 2 فبراير بتعليقات منتقدة لتصريحات تبون بشأن التطبيع مع إسرائيل، ليس من طرف عامة الجزائريين فقط وإنما أيضا من طرف نشطاء سياسيين، خاصة بين الأحزاب الإسلامية التي تعتبر التطبيع مع إسرائيل «خيانة للقضية الفلسطينية». فقد أبدت حركة مجتمع السلم، أكبر الأحزاب الإسلامية في الجزائر، تحفظاتها على تصريحات تبون، مؤكدة أن الجزائر يجب أن تظل داعمة للحقوق الفلسطينية وترفض كل أشكال التطبيع.
كما انتقد عبد الرزاق مقري، الرئيس السابق للحركة، تصريحات تبون، معتبرا أن الحديث عن التطبيع «في ظل الحديث عن تهجير الفلسطينيين لتوسيع دولة الاحتلال، هو أمر خطير ويثير الريبة».
وفي مواجهة الانتقادات الغاضبة للجزائريين، اندفع أذناب النظام العسكري في محاولة لتوجيه الرأي العام من خلال الادعاء بأن الشرط الذي أطلقه تبون «تعجيزي»، حيث حسبهم لا يمكن أن يتحقق وبالتالي يستبعدون أن يطبع النظام الجزائري مع إسرائيل.
وسارعت الرئاسة الجزائرية إلى نشر «مضامين» من الحوار وروجت روايتها «المنقحة» عبر منصات التواصل الاجتماعي.
وهكذا ظهرت نسختان من حوار تبون المثير للجدل: النسخة الأصلية التي نشرتها جريدة لوبينيون الفرنسية، ثم نسخة معدلة نشرتها رئاسة الجمهورية الجزائرية وأذاعتها وسائل الإعلام التابعة للنظام.
ففي الحوار المنشور في جريدة لوبينيون الفرنسية لم يقل تبون عبارة «فلسطين كاملة» كما نشرت صفحة الرئاسة، بل اكتفى بعبارة فلسطين فقط. وهو يقصد في كل الأحوال دولة فلسطينية على حدود 1967 أي 22% من أرض فلسطين التاريخية. فمن أين أتت صفحة الرئاسة بكلمة «كاملة»؟
ازدواجية المعايير الجزائرية
التناقض الكبير في الموقف الجزائري يكمن في أن النظام الذي يعلن انفتاحه على إسرائيل في ظل شروط معينة، هو نفسه الذي يشن حملة عدائية شرسة ضد المغرب على خلفية استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الرباط وتل أبيب. فمنذ إعلان المغرب عن إعادة علاقاته مع إسرائيل في دجنبر 2020، صعّدت الجزائر من خطابها العدائي، معتبرة أن التطبيع « خيانة للقضية الفلسطينية ».
لكن، وفق مراقبين، يبدو أن تبون يحاول الآن إعادة صياغة الموقف الجزائري بشكل أكثر براغماتية، خاصة في ظل المتغيرات الإقليمية، حيث تسير دول مثل السعودية نحو اتفاق تاريخي مع إسرائيل. وهذا يعني أن الجزائر قد وجدت نفسها مضطرة إلى تعديل خطابها، خوفا من العزلة السياسية.
مكاسب سياسية خفية
تذهب غالبية تعليقات رواد الانترنيت، خاصة من مراقبين ومحللين سياسيين، إلى أن تصريحات تبون تخدم أهدافا سياسية أكثر من كونها تغييرا حقيقيا في النهج الجزائري، ومن أبرز هذه الأهداف:
1. التخلص من الخطاب الشعبوي العدائي لإسرائيل:
يبدو أن النظام الجزائري بدأ يدرك أن الاستمرار في تبني خطاب راديكالي تجاه إسرائيل لن يكون في صالحه، خاصة مع الضغوط الدولية المتزايدة، وخصوصا من الولايات المتحدة، التي تحاول دفع الجزائر للانضمام إلى مسار التطبيع.
2. مقايضة التطبيع بدور دبلوماسي إقليمي:
من خلال الإيحاء بإمكانية التطبيع، تسعى الجزائر إلى تسويق نفسها كطرف فاعل في أي تسوية مستقبلية للقضية الفلسطينية، في محاولة لاستعادة بعض نفوذها الإقليمي.
3. الضغط على إسرائيل لوقف دعم المغرب:
وفق محللين، فإن الجزائر تحاول توجيه رسائل غير مباشرة إلى تل أبيب، مفادها أنها مستعدة لفتح قنوات تواصل، ولكن في المقابل، تريد وقف التعاون الإسرائيلي مع المغرب، خاصة في المجالين العسكري والدبلوماسي.
تطبيع «مقنّع»
يبدو أن تصريح تبون لم يكن مجرد زلة لسان، بل جزء من استراتيجية جديدة يحاول النظام الجزائري الترويج لها، بهدف تحسين علاقاته مع القوى الكبرى دون إثارة ردود فعل داخلية عنيفة.
لكن هذا الموقف يكشف في الوقت ذاته عن تناقضات عميقة في السياسة الخارجية للجزائر، التي ترفع شعارات دعم القضية الفلسطينية بينما تعمل في الخفاء لتحقيق أهداف جيوسياسية. ففي الوقت الذي تعلن فيه استعدادها للتعامل مع إسرائيل، تشدد على عدائها للمغرب، مما يثير تساؤلات حول حقيقة أولويات النظام الجزائري.