إنه مشهد يكشف عن نفاق فجّ يتقنه النظام العسكري الجزائري. في مدخل مدينة باتنة، التي تقطنها أغلبية ناطقة باللغة الأمازيغية الشاوية، رُفعت لافتة ضخمة ترحب بالزوار بثلاث لغات: بالعربية (مدينة باتنة ترحب بكم)، الأمازيغية (ⵡⵍⵛⴰⵎ ⵜⴰ ⴱⴰⵜⵏⴰ ⵛⵉⵜⵢ) والإنجليزية (Welcome to Batna City).
وهرولت وسائل الإعلام الرسمية إلى التطبيل لهذا « الإنجاز » بوصفه خطوة في مسار الاعتراف بالتعدد اللغوي والثقافي، وبأن الجزائر « تتحرر » من الفرنسية لصالح الإنجليزية. لكن ما لم يُحسب له حساب، هو أن النسخة الأمازيغية التي ظهرت على اللافتة لم تكن إلا فوضى حروف بلا معنى، لا تمت بصلة لا للغة الأمازيغية، ولا لأي لغة حية.
إذ أن العبارة التي كُتبت بالأمازيغية ليست سوى نسخا للصوت الإنجليزي لعبارة « Welcome to Batna City »، عن طريق مقابلتها بحروف « تيفيناغ ». ونتيجة هذا « التركيب » اللغوي الهجين كانت ما يشبه النطق المشوه « Wlcham ta Batna Chity »، وهي صيغة لا تنتمي إلى أية لغة، ولا تحمل أي دلالة مفهومة، لا بالأمازيغية، ولا بالعربية، ولا حتى بالإنجليزية.
وهكذا أظهرت هاته اللافتة، التي بدت محاولة ساذجة للزينة اللغوية، أن تعامل النظام مع الأمازيغية ليس سوى استغلال سياسي موسمي، يُوظَّف في المناسبات الرسمية أو في سياقات دعائية من طرف السلطة العسكرية التي تبحث عن شرعية زائفة.
غضب شعبي ضد العبث الرسمي
ردّ الفعل الشعبي لم يتأخر، فقد اشتعلت صفحات التواصل الاجتماعي في ولاية باتنة، حيث عبّر المواطنون عن غضبهم الشديد، واصفين ما جرى بـ« المهزلة » و« الإهانة المقصودة ».
وأجمع المنتقدون على أن هذا الخطأ اللغوي الفج لم يكن مجرد سهو، بل نتيجة طبيعية لسياسات تهميش ممنهجة، تعكس تعاطي النظام مع الأمازيغية باعتبارها مجرد زينة تجميلية في الخطاب الرسمي، تُرفع في المناسبات وتُهمّش في الواقع.
وأعاب رواد مواقع التواصل الاجتماعي عبر صفحات محلية، على سلطات النظام كيف لم تكلف نفسها عناء سؤال أهل الاختصاص، وكأن اللغة الأمازيغية مجرد ديكور لا يُرجى منه إلا تحسين صورة سلطته المتآكلة.
وبادر عدد من المتخصصين في اللغة الأمازيغية إلى تصحيح العبارة اللائقة بحروف تيفيناغ، وهي:ⴰⵏⵚⵓⴼ ⵢⵉⵙⵓⵏ ⴷⵉ ⴱⴰⵜⵏⴰ / أنصوف ييسون دي باتنة
وطالب السكان الغاضبون السلطات المعنية بالتدخل الفوري لتصحيح اللافتة، والتوقف عن « العبث » باسم التعدد الثقافي.
وليست هذه الحادثة الأولى من نوعها، إذ سبق أن فشلت عدة لافتات رسمية في احترام التعدد اللغوي للجزائر. لكن في وقت يُفترض أن تترسخ فيه الأمازيغية في الفضاء العام، تُفاقم مثل هذه الأخطاء الإحساس بالتهميش أو الاستهتار الرسمي.
ولهذا، تُطالب أصوات عديدة في الجزائر بإشراك خبراء لغويين، وأساتذة جامعيين، وممثلين عن المفوضية السامية للأمازيغية (HCA)، في كل مبادرة تتعلق باستعمال الأمازيغية في الفضاء العام.
دسترة على الورق.. وتهميش في الواقع
يأتي هذا الخطأ في سياق أوسع من التناقضات التي تطبع تعامل النظام الجزائري مع المسألة الأمازيغية. فبعد عقود من الحراك الشعبي، انتزع النشطاء الأمازيغ مكاسب هامة: تم الاعتراف بالأمازيغية كلغة وطنية عام 2001، ثم لغة رسمية في تعديل دستوري سنة 2016، مع إعلان فاتح يناير الأمازيغي عطلة وطنية منذ عام 2017. كما أُسست « المحافظة السامية للأمازيغية » التابعة لرئاسة الجمهورية، وتم الشروع في تدريس الأمازيغية في عدد من الولايات.
غير أن هذه المكتسبات شكلت جزءا من سياسة ممنهجة يمارسها النظام العسكري، الذي لا يتحرك إلا تحت ضغط الشارع أو عند الحاجة إلى امتصاص الغضب، كما حدث بعد احتجاجات « الربيع الأمازيغي » (1980)، إلى « إضراب المحفظة » (1994)، و« الربيع الأسود » (2001)، وصولا إلى احتجاجات 2017، التي دفعت النظام للإعلان الرمزي عن إدماج الأمازيغية دون تطبيق حقيقي في مؤسسات الدولة.
النظام لا يخشى الأمازيغية.. بل يستغلها
لا تخشى السلطة العسكرية في الجزائر اللغة الأمازيغية لأنها تهدد وحدتها المزعومة، بل لأنها تُفضح هشاشة مشروعها « الوطني » القائم على الإنكار والإقصاء.
ولعل أكبر دليل على ذلك، هو تعاملها القمعي مع نشطاء الأمازيغية، خاصة في منطقة القبائل، حيث تُوجَّه لهم تُهم « الانتماء إلى منظمات إرهابية » لمجرد رفع راية الهوية.
وإلى غاية اليوم، في ظل العهدة الثانية لعبد المجيد تبون صاحب شعار « الجزائر الجديدة »، يواصل النظام اعتقال المناضلين الأمازيغ ورفض الاعتراف الحقيقي بثقافتهم، في تناقض صارخ مع ما ينص عليه الدستور، وما تروج له أبواق العسكر الإعلامية.
غياب الإرادة السياسية
رغم أن الدولة الجزائرية تتباهى بـ« مؤسسات أمازيغية » وترجمات شكلية للنصوص الرسمية، إلا أن التفعيل الحقيقي لا يزال يراوح مكانه. فالأمازيغية غائبة عن القضاء والإدارة، لا تُستخدم في المراسلات الرسمية، ولا توجد خارطة طريق واضحة لإدماجها الفعلي في المنظومة التربوية والإعلامية.
وقد عبرت أحزاب سياسية مثل « حزب العمال » و« التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية » عن انتقاداتها لهذا المسار، معتبرة أن النظام يقدّم تنازلات سطحية دون إدماج فعلي للهوية الأمازيغية.
إن ما جرى في باتنة يختصر طريقة تفكير النظام: كل ما لا يخدم بقاءه في السلطة يُقصى أو يُشوَّه. واللغة الأمازيغية، رغم كونها مكونا أصيلا في هوية الشعب الجزائري، لا تُستحضر إلا حين يحتاج النظام إلى ورقة سياسية لمساومة الداخل أو الخارج. أمّا حين يتعلق الأمر بالتطبيق الفعلي، فالصمت، والتهميش، والمراوغة، والقمع، هي القاعدة.








