أفادت صحيفة «كوريري ديلا سيرا» الإيطالية، في تقرير نشرته يوم الإثنين 2 يونيو، أن الكاتب الفرنسي الجزائري كمال داود اضطر إلى إلغاء رحلة كانت مبرمجة إلى مدينة ميلانو منتصف يونيو الجاري، بسبب مخاوف من توقيفه فور وصوله إلى المطار وتسليمه إلى السلطات الجزائرية، بموجب مذكرات توقيف دولية صادرة عن القضاء الجزائري.
وكان داود سيشارك في مهرجان La Milanesiana، أحد أرقى المهرجانات الثقافية في إيطاليا، حيث كان يعتزم الترويج لروايته الأخيرة الحوريات، الحائزة على جائزة غونكور لعام 2024. لكن الصحيفة الإيطالية، نقلا عن مصدر قضائي مطّلع، كشفت أن قاضيا إيطاليا أعطى موافقة مبدئية على توقيف الكاتب حال وصوله إلى مطار ميلانو، تمهيدا لتسليمه للجزائر.
رواية تتحوّل إلى قضية دولية
كمال داود بات مستهدفا بأربع شكاوى مرتبطة بروايته الحوريات، اثنتان منها قُدّمتا في الجزائر واثنتان في فرنسا. وتعود جذور القضية إلى سيدة تُدعى سعادة عربان، تتهم الكاتب بسرقة قصتها الشخصية وتجسيدها في الرواية دون موافقتها.
تدور أحداث الحوريات حول الطفلة « أوب »، ذات الست سنوات، الناجية الوحيدة من مجزرة إرهابية طالت عائلتها في غرب الجزائر خلال سنوات « العشرية السوداء ». بعد أن نُحرت واعتُقد أنها توفيت، نُقلت إلى المستشفى ونجت، لكنها بقيت تعاني من صدمة نفسية عميقة.
إقرأ أيضا : بعد سجن الأديب بوعلام صنصال.. النظام الجزائري يطارد كمال داود لإسكاته
وتؤكد سعادة عربان أنها عاشت نفس المأساة في طفولتها، وكانت قد روت تفاصيلها لطبيبتها النفسية، التي تصادف أنها زوجة كمال داود. وتتهم عربان الطبيبة بنقل قصتها لزوجها دون إذنها، ما شكّل انتهاكًا صارخًا لخصوصيتها.
وفي نوفمبر الماضي، أعلن دفاع عربان عن رفع دعويين قضائيتين ضد داود أمام محكمة وهران: واحدة بتهمة انتهاك الخصوصية، والثانية باسم ضحايا الإرهاب. كما رفعت عربان دعويين أمام القضاء الفرنسي، إحداهما بتهمة التشهير، مطالبة بتعويض قدره 200 ألف يورو.
تدويل القمع
أصدر القضاء الجزائري في مارس ومايو 2025 مذكرتي توقيف دوليتين بحق داود، أُحيلت إحداهما عبر « الإنتربول »، في تصعيد وصفه متابعون بمحاولة واضحة لتدويل الملاحقة القضائية لأصوات المعارضة.
وفي تعليقها على الخطوة، اعتبرت محامية داود، جاكلين لافونت، أن « الدوافع لا يمكن أن تكون إلا سياسية »، مضيفة أن فريق الدفاع قدم طعنا أمام لجنة مراقبة ملفات الإنتربول للطعن في قانونية النشر.
وشددت المحامية على أن الرواية تسلط الضوء على حقبة العشرية السوداء، التي لا تزال تُعتبر « طابوها سياسيا » في الجزائر، حيث يُمنع الحديث عنها خارج الرواية الرسمية للنظام، ناهيك عن مساءلة المسؤولين عنها.
عندما تصبح الرواية جريمة
ليست هذه أول مرة يستهدف فيها النظام الجزائري كاتبا بسبب آرائه، فقد سبق أن حُكم على الروائي بوعلام صنصال بالسجن خمس سنوات، في قضية اعتبرها حقوقيون « كيدية »، لأنها تتصل مباشرة بمواقفه السياسية وكتاباته التي تنتقد السلطة.
إقرأ أيضا : النظام الجزائري يستغل عائلة كمال داوود لتصفية حساباته الفكرية
ويرى مراقبون أن السلطات الجزائرية باتت تتبع سياسة ممنهجة لقمع المثقفين والمبدعين، مستخدمة أدوات القضاء، والضغط العائلي، وحملات التشهير الإعلامي، للجم كل من يخرج عن السردية الرسمية.
قمع يتجاوز الحدود
قضية كمال داود تفضح الوجه العابر للحدود لقمع النظام الجزائري، الذي لم يعد يكتفي بخنق حرية التعبير داخل البلاد، بل بات يطارد المثقفين والمعارضين في المنافي، حتى أولئك الذين تخلوا عن جنسيتهم الجزائرية. فبذريعة قانونية واهية، يستخدم النظام أدوات دولية مثل الإنتربول لتصفية حساباته مع الأصوات التي تجرؤ على التفكير خارج السياق الرسمي، في ممارسات لا علاقة لها بالجريمة، بل بحرية الرأي والإبداع.
إقرأ أيضا : بين شعارات الحرية وواقع القمع: «أمنيستي» تفضح انتهاكات النظام الجزائري
ملاحقة داود ليست حالة معزولة، بل حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الانتهاكات التي تؤكد إصرار السلطة على احتكار سردية التاريخ والهوية الوطنية، ولو كان الثمن هو إسكات الرواية كما يُسكت الرأي السياسي والإعلام المستقل.
وهكذا، في بلد تُجرَّم فيه الكلمة، وتُعامَل فيه الرواية كتهديد للأمن، تنهار حرية التعبير أمام نظام لا يرى في الفكر الحر سوى خطرا وجوديا. المثقف الحر لم يعد يُعامل كمواطن، بل كهدف مشروع، في معركة بقاء لا يتردد فيها النظام العسكري في سحق كل صوت مستقل دفاعا عن استمراره في السلطة، ولو كان ذلك على أنقاض الإبداع والكرامة.