على مدار سنوات، كان المثقف بالمفهوم الغرامشي للكلمة، يُمارس دوره كمثقف ومهمّته العلمية المتمثلة في المشاركة في النقاش العام الذي يطال الفضاء العمومي. إذْ على الرغم من كون السياسي كان دائماً يحارب المثقف الحداثي داخل الأحزاب والنقابات والجمعيات والمؤسسات، بحكم سُلطته الرمزية التي تجعل الكثير من الناس يقبلون على خطاب المثقف بدل السياسي، ظلّ المثقف المغربي، يقظاً تجاه التحولات التي تخترق بعنف الواقع. بيد أنّ التصدّي لدعاة التقليد والإسلام السياسيّ لم يكُن سهلاً في سيرة الثقافة المغربية الحديثة، لأنّه كان يجد نفسه أمام بنية تقليدية تُريد الاستمرار.
في حين أنّ هاجس المثقف كان دائماً متمثّلاً في القطع مع هذه البنية ومحاولة بناء مجتمع حداثي مبني على العقل والحرية والديمقراطية. لم ينجح المثقف في التغلّب على رجل السياسة لأسباب في مجملها تاريخية مبنية على التواطؤ والخذلان. في وقت أصبح السياسي يمتلك شرعية الحديث في أمور لا علاقة له بها، بل تخرج من إطاره المعرفي لكونها أكثر صلة بمشاغل المثقف وهمومه. أمام تراجع دور اليسار وانتشار التفاهة وتراجع دور الثقافة باعتبارها البوصلة التي تُوجّه المجتمع صوب التحديث، جعل المثقف يصمت ويبتلع لسانه، ليس خوفاً من طبيعة المرحلة السياسيّة الراهنة، وإنّما بسبب الإحباط الذي يجعله يُفكّر في أشياء علمية بعيدة عن المجتمع بصفة عامّة.
ثمّة الكثير من المثقفين لم نعُد نسمع صوتهم ولا نرى صورتهم على السوشيال ميديا ولا حتّى في الحياة الثقافية اليوميّة. مثقفون حقيقيون خسرتهم الساحة بسبب أفكارهم الجريئة وقُدرتهم على تقديم أفكار حقيقية ومواقف أصيلة ساهمت في إخراج المجتمع من براثن الجهل والتقليد. ماذا تبق اليوم من تاريخ الثقافة المغربية؟ فالأجيال الجديدة لم تُبلور شيئاً بعد يُعوّل عليه ثقافياً، بل إنّ هذه الأجيال على حسن نيتها، تجد نفسها في دوّامة السياسي الذي يحاول ابتلاع كلّ شيء بسبب سُلطته اللامحدودة. في حين تبق الأصوات الثقافيّة مُهمّشة تبحث لها عن منفذ آخر، إما أن تكتب وتصمت أو تدخل في تواطؤ مع رجل السياسة من أجل البحث عن شرعيتها داخل المجتمع من ناحية الذيوع والانتشار. المثقفون الذين غيّروا مواقفهم وأفكارهم بمجرّد دخولهم باب السياسة، لم يكونوا مثقفون على الإطلاق. ذلك إنّ العبور إلى السياسة ينبغي أنْ يكون في هذه الحالة امتداداً للانشغال الثقافي، أيْ أنْ يُحقّق المثقف سياسياً ما لم يستطع إنجازه كمثقف.