ولد الممثل مصطفى الزعري في مدينة الدارالبيضاء وداخل بيئة اجتماعية هشّة لا تعرف الفن ومتخيّله. فحياته داخل درب السلطان كانت مليئة بالمغامرات الطفولية التي دفعت والدته لاحقاً بعد رحيل والده إلى تسجيله في بعض النوادي المسرحية داخل المدينة. وبما أنّ النوادي المسرحية كانت سبّاقة على نظيرتها السينمائية، فكان لزاماً على الزعري أنْ يتشبّع بالثقافة المسرحية ويجعل منها أداة للتعبير عن ألقه ومواجعه داخل مدينةٍ تحاول أنْ تنتفض فنياً منذ ستينيات القرن المنصرم. كان النادي المسرحي بالنسبة للراحل عبارة عن مختبرٍ فني كبير لتعلّم مبادئ الأداء المسرحي. وهذا الأمر، قاده في طفولته المبكّرة إلى التعامل مع المسرح على أساس أنّه هواية حقيقية تعطي للممثل إمكانات تعبيرية مذهلة لعيش حياة مزدوجة بين التي ينتمي إليها فيزيقياً والأخرى ذات الصلة بالعمل الفني.
بين المدينة القديمة (الولادة) ودرب السلطان (النشأة) استطاع الزعري أنْ يُكمل دراسته بشكل عادي، غير أنّ مشاركاته الدائمة في إطار جمعيات فنية كانت تنظم الكثير من العروض الفنية داخل المخيمات الصيفية سيُعزّز في ذاته حبّ المسرح ولذّة النكتة الساخرة التي تضفي على شخصيته طابعاً مرحاً. ورغم أنّه التحق مبكّراً بمسلك التعليم، إلاّ أنّه لم يستطع أنْ يستكمل هذه التجربة التعليمية، وعياً منه بعدم قُدرته على تقديم دروس للناس. بحيث يعتبر الراحل أنّ مزاجه، لم يكُن له علاقة بهذه الوظيفة التربوية بالنسبة لرجل يعشق ارتياد المسارح والتعبير عن طريق الكوميديا عن ذاته وروحه. خاصّة وأنّ الزعري ذهب إلى التعليم وفي عمره 19 سنة، لم يشتغل فيها إلاّ سنتين وبعدها اتجه صوب المسرح بشكل احترافي.
بعد عودته من قرية « لعيايطة » بنواحي مدينة بني ملال كمُعلّم قدّم استقالته خلال ستينيات القرن العشرين، تقدّم مصطفى الزعري إلى امتحان الجمعية الخيرية الإسلامية بعين الشق حيث نجح وأصبح مؤطّراً. وبعد سنوات من هذه التجربة التربوية التي استطاع من خلالها الفنان أنْ يُقدّم رسالته الفنية للأجيال الواعدة، التحق الزعري بـ « المعهد البلدي » رفقة بعض الممثلين المغاربة من أبناء جيله، حيث درس مدة سنتين وتتلمذ على يد كل من الطيب الصديقي وأحمد الطيب لعلج. وشكّلت هذه الفترة بالنسبة للراحل مرحلة تكوين حقيقية بالنسبة له رفقة الممثل صلاح الدين بنموسى. فقد اعتبر الزعري أنّ هذه المرحلة كانت مهمّة في حياته وهي التي لعبت دوراً كبيراً في بروز اسمه كواحدٍ من الوجوه المسرحية التي سيكون لها تأثير كبير على المتلقي داخل المغرب.
بين لعلج والصديقي بلور صاحب « مرحبا بصحابي » تجربة فنية غنية تؤمن بقوّة الفن وضرورته في تهذيب الحياة العامّة. فالمسرح كما تلقّفه من الطيب الصديقي عبارة عن ممارسة فنية جادة لها ما يُميّزها من الناحية الفكرية، بحكم التأثير الكبير الذي تُمارسه على المجتمع، خاصّة في زمن كان فيه المسرح يلعب دوراً طليعياً في المجتمع، بالمقارنة مع ما يحدث من ترفيه وتسطيح وتفاقم للبلاهة بمختلف أشكالها وأنواعها. إنّ المسرح كما استوعبه الراحل يُدخل الممثل في صلب المنظومة الفكرية على أساس أنّ الفنّان يُعدّ صانعاً للفرحة والبهجة داخل المجتمع.
مارس الزعري المسرح عام 1962 ضمن فرقة الهواة للفنان عبد العظيم الشناوي. لكنْ في سنة 1964 سيلتحق بفرقة البدوي كفنان شبه محترف. ورغم اشتغاله كمؤطر ومربي، فإنّه ظلّ قريباً من المجال المسرحي بشكل يوميّ. لذلك تبرز تجربته اليوم كواحد من الأسماء المسرحية اللامعة التي طبعت الساحة الفنية. وعلى مدار سنوات، آمن صاحب فيلم « خارج التغطية » بقوّة الفنان، لا باعتباره صانعاً للفرجة، ولكنْ كشخص مثقف يتوفّر على مؤهّلات ثقافيّة تُساعده على إبراز بعض من هذه الثقافة التي تظهر بين الفينة الأخرى داخل العمل المسرحي. إنّ الفنّ يُمكن أنْ يصبح مقاومة في نظر مصطفى الزعري وذلك على أساس أنّه يُشكّل مقاومة حقيقية ضد المسرح التافه والمُنحطّ الذي تُحاول العديد من التجارب الجديدة التي برزت مع التسعينيات أنْ تُحوّله إلى عبارة عن مسرح للصالونات.
والحقيقة أنّ اعتبار الفن مرادفاً للمقاومة لم يكُن مرتبطاً بالمسرح فقط، وإنّما أيضاً بجميع أشكال المعرفة الأدبيّة ونظيرتها الفنية. على أساس أنّ نهاية الستينيات وبداية السبعينيات ستعرف ميلاد ما سًمّي بـ « اليسار الجديد » الذي سيعمل بشكل ضمني على ضخ دماء جديدة في شرايين الثقافة المغربية وإخراجها من كلّ أبعادها التقليدية التي ستتبلور ثقافة وفناً مع جيل السبعينيات بوصفه صانعاً للحداثة داخل المغرب. فإذا تأملنا هذه الثنائية بين الفن والالتزام والفن والمقاومة سنجد أنّها عبارة عن ثنائيات ثقافيّة ظلّت تطبع الممارسة الفنية عند مصطفى الزعري إلى لحظة وفاته، سواء تعلّق الأمر بالمسرح أو السينما أو الالتزام.
خلال الثمانينيات ستبرز تجربة الزعري بقوّة لكنْ هذه المرّة ليس كفريق مسرحي، وإنّما ضمن شكل فني جديد، سيُعتبر من خلاله مصطفى الزعري ومصطفى الداسوكين كأولى الأسماء التي ستقتحم هذه التجربة الفنية الثنائية والتي ستُراكم العديد من التجارب ذات الأثر الكبير داخل المسرح المغربي. إنّ لقاء الزعري بالداسوكين في عددٍ من المسرحيات والأفلام ساهم بشكل كبير في إنجاح هذه الأعمال الفنّية والمُساهمة في ذيوعها وانتشارها داخل الساحة الفنية بالمغرب.
وعلى مدار 17 سنة يعملان بشغف على كتابة وأداء العديد من « السكيتشات » والمسرحيات التي ستغدو شهيرة داخل عددٍ من المدن المغربية. ففي تلك السنوات، كان الجمهور متعطّشاً لرؤية الثنائي على التلفزيون وخشة المسرح عبر أداءٍ مسرحي تلقائي مُبهر يُضمر عمقاً واشتغالاً مكثّفاً على النصّ المسرحي. لكنْ في لحظةٍ ما توقّفت التجربة لأنّ مصطفى الزعري أحسّ في لحظةٍ ما من مساره المسرحي أنّه بات يُكرّر نفسه من خلال تجربة الثنائي مع الداسوكين لتتوقّف التجربة وتنتقل معها الفكرة إلى أجيال أخرى، جعلتها عبارة عن شكل فني قادرٍ على احتواء أفكارهم ومواقفهم تجاه السياسة والمجتمع بشكل عام.