محمّد شكري لا يحتاج إلى ندوة علمية ولا إلى لقاء ثقافي للتعريف بأعماله الرواية والقصصية وكتابة اليوميات التي كتبها رفقة بول باولز وجان جنيه وتينسي وليامز، ما دامت كتاباته منتشرة في كلّ أرجاء العالم ويتم تدريس أدبه والاحتفاء به من لدن غرباء ترجموه ورافقوا أدبه في الليالي الباردة، أشخاص لم يتعرّف عليهم يوماً، لكنّهم آمنوا بكتاباته وقيمتها الأدبيّة في علاقتها بالواقع. لكنّه اليوم في بلده وداخل مدينته يُصبح محظوراً ومشكوكاً في أدبه من لدن كتاب وباحثين يتعاملون معه كظاهرة أدبيّة لا أكثر.
وهو مفهوم كان يغضب محمّد شكري، ما دفعه في سنوات قبل رحيله من تأليف كتابه النقدي الشهير « غواية الشحرور الأبيض » الذي كان رداً قاسياً وذكياً على من يعتبرون كتابات شكري لا تمتلك قيمة معرفية وخصوصية أدبيّة وأنّه لا يتوفّر على رصيدٍ معرفي قويّ بحكم تعليمه البسيط في ذلك الإبان. وصف شكري بـ « اللا أخلاقي » أمرٌ لا يقبله العقل، خاصّة في هذا الزمن الذي يتحوّل فيه المغرب إلى مصنع لإنتاج سلفية ثقافية تنظر إلى القضايا الثقافية الحديثة من منظور فقهي. والحال أنّ المكتسبات التي حقّقها المغرب ثقافياً منذ سبعينيات القرن المنصرم، يجعلنا بعيدين عن مثل هذه العناوين « اللا أخلاقية » في حقّ الكتاب والأداء والمفكرين.
ورغم الجدل الذي رافق بوستر الندوة، لم تعمل الجهة المنظّمة على الأقلّ تغيير عنوانها والاعتذار من الوسط الثقافي الذي يحترم كتابات محمّد شكري وقدرته كمبدع مغربي أصيل الكتابة وفق نفس روائي مختلف، ما يزال إلى اليوم موشوماً في الذاكرة الأدبية بالمغرب. من يُريد تمريغ كرامة شكري على الأرض؟ السلطة التي منعت كتبه من الانتشار في المغرب اعترفت بقيمته في السنوات الأخيرة من رحيله؟ الإسلاميون الذين ظلّوا يلاحقون كتاباته ومواقفه تجاه المرأة والجنس اختفوا ولم يعُد لهم وجود، في حين أنّ كتبه تُطبع وتُترجم وتُوزّع إلى حدود اليوم في العالم؟ أعتقد أنّ هناك اليوم في المغرب وداخل كوكبة من المثقفين الذين يعتبرون أنفسهم ينتمون إلى الحداثة فئة تُريد أنْ ترجع بالساحة الثقافية إلى زمن الصلحاء والأخلاق والأضرحة وثنائية الشيخ والمريد، متناسين الطفرة الفكرية التي حققها الكتاب المغاربة في علاقتهم بمفاهيم النقد والمغايرة والاختلاف.
والحقيقة أنّ هذه الفئة التي تحسب نفسها على ثقافة الحداثة، تنظر إلى العالم من زاوية أخلاقية تُقيّم وتُحلّل التجارب الأدبيّة بمنطق « الحلال » والحرام ». والحال أنّ هذا المفهوم « اللا أخلاقي » لا ينبغي أنْ يُطبّق على كتاب ونقاد وفنانين ومغنين ومبدعين، ممّن يتوسّلون الفنّ والأدب للتعبير عن أجسادهم وسير حياتهم ومآزق مجتمعهم. إنّهم يجترحون عبر كتاباتهم الأدبيّة أفقاً تخييلياً، يُعيدون فيه عبر القصص والحكايات نسج علاقة أبديّة مع الفضاءات التي ينتمون إليها.
ليس محمّد شكري « لا أخلاقيا » إنّه أديب قدّم الشيء الكثير للمغرب، بل لا يوجد شخص على الإطلاق، سواء في السياسة أو الدبلوماسية أو الفنّ أو الاقتصاد عرّف بمدينة طنجة وساهم في ذيوعها وانتشارها وجعلها أحد أشهر المدن المغربية في العالم كما فعل شكري في رواياته، لدرجةٍ أن هناك الكثير من السيّاح يأتون إلى المغرب للبحث عن « طنجة محمّد شكري ». ورغم أنّهم يُصدمون بحقيقة الفضاءات التي كتب عنها شكري ومدى اختلافها عن الواقع، إلاّ أنّهم يحدسون بقيمة أدب صاحب « الخيمة » وقدرته على تجميل الوقائع بطريقته الساخرة والمُدهشة في التعبير عبر لغةٍ بسيطة يفهمها الكلّ.
وصف شكري بـ « اللا أخلاقي » نابعٌ من طريقة تلقّي رواياته وقصصه واعتبارها تدخل ضمن « الأدب الماجن » أو » الأدب المحظور » بسبب وجود مشاهد وأحداث ذات بعدٍ جنسي. وكأنّ هذا الأخير ليس مُكوّناً من مُكوّنات التركيبة البشرية، بل كأنّ شكري ينبغي عليه أنْ يرتدي جلباب الفقيه حتّى يكتب رواية. مع العلم أنّه لم يكتُب إلاّ ما رآه وعاشه بين العرائش وتطوان وطنجة، مُحوّلاً حياته اليوميّة إلى مادة أدبيّة غنيّة تهجس بتناقضات المجتمع المغربي وتصدّعاته.