وفق هذا المنطلق، يتعامل السياسيّ مع الثقافة، لا باعتبارها مشروعاً فكرياً تنويرياً يُخرج الناس من براثن الجهل، بل بوصفها غطاءً بلاستيكياً مُزركشاً فاقع اللون. لا يُمكن أنْ نتعامل مع ثقافتنا وتاريخنا وذاكرتنا بكل فنونه وجمالياته على أساس أنّها « بريستيج »، بقدر ما ينبغي الوعي بأهمية الثقافة المغربية كقدرٍ. فلا غرابة أنْ تُطالعنا الأنشطة الثقافية التي تقوم بها المؤسسات عبارة عن مساحات فارغة من الثقافة، مساحات يتراجع فيها صوت المثقف المّتزن ويعلو صوت المؤثرين والتافهين ممّن لا يتوفّرون على ذرةٍ واحدةٍ من المعرفة.
كيف يُعقل أنْ نبني مجتمعاً حضارياً تصبح فيه الثقافة وسيلة للبحث عن أصوات سياسية وشرعية مزيّفة وإخراس صوت المثقف وتأزيمه؟ هل يُعقل أنْ يصبح المؤثّرون والفنانون الترفيهيون في الغناء والموسيقى يُوجّهون المجتمع صوب مستنقعات لا ثقافيّة؟ تعمّدت المؤسّسات منذ نهاية منتصف السبعينيات إخراس صوت المثقف والقضاء عليه وعلى فكره التحرّري، بعدما واجهته بالرأسمال الديني. لكنّ السياسي وبسبب ضعف نظره الاستشرافي في الحدس بتحولات الواقع، لم يفطن إلى أنّ هؤلاء الدعاة ستتقوى شوكتهم ويصبح من الصعب القضاء عليهم في زمن الإسلام السياسي.
ما وصل إليه المغرب الثقافي اليوم من بؤس وتصدّع وهشاشة، جعلت المؤثّرين ممّن يعانون من فقر دم الخيال والإبداع يتربّعون على عرش الكراسي ويُقدّمون النصائح للناس، تتحمل المؤسّسات تبعاته، طالما فرضت على الناس وجوهاً لا علاقة لها بالثقافة. فإذا كان السياسي سابقاً استعمل الدين سلاحاً للقضاء على المثقف وسجنه واتهامه بالإلحاد والخذلان، فإنّ السياسي نفسه، يستغّل نجوم السوشيال ميديا والمغنيين لإخراس صوت المثقف الحداثي من جديد. إذْ رغم ما عرفته سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين من مآسٍ سياسيّة، كان رجل السياسة يُعطي لنفسه فسحة تفكير وتأمّل في الدور الذي يُمكن أنْ يلعبه الخيال في شحذ مخيّلة الناس وتهذيب ذوقهم ودفعهم إلى الابداع والابتكار.
أما اليوم، فإنّ السياسي أصبح مجرّد جسد فارغ من الخيال وغير قادر على إيجاد حلول بسيطة ذات صلة بالثقافة والتعليم والصحّة. ليس الأمر مرتبطاً بالتخصّص وبضرورة معرفة بعض أنماط معرفة تُتيح له إمكانية البحث عن حلول، بل هناك مشكل فكري يتمثّل في عطب الخيال والحلم. لا يوجد وزير واحد راهن على الخيال باعتباره طاقة إبداعية مذهلة تقوده حتماً إلى البحث عن آفاقٍ جديدة لم يحلم بها. فأغلب السياسيين اليوم لا يتوفرّون على بعد نظرٍ، لأنّه كما سبقت الإشارة مجرّد أجساد فارغة من المعرفة ورمزيتها.
الأجندات السياسية الآن مجرّد صدى لما يدورٍ في واقع صنعه السياسيّ أصلاً. بل وساهم في هدمه وتغييره ملامحه الجمالية بأخرى بلاستيكية. إنّ الصدى هو نتاج التقليد وعطب في حاسة الخيال ومأساة فكرٍ تقليدي يعادي الفكر الخلاق المُنتج للأفكار والمفاهيم والعلامات والمعارف والقيم. فلا غرابة أنْ يصبح فكر السياسي اليوم فكراً تقليدياً يُشبه تفكير الداعية. لم يعُد المثقف قادراً على توجيه الرأي العام وتصويب رؤيته تجاه القضايا الهامّة والإشكالات التي تستحقّ التفكير والتأمّل من أجل مجاوزة الواقع المتردّي، لأنّ السياسي يضرب عليه الحصار ويجعله تابعاً له وفق مصالح خاصّة يستفيد منها السياسي أكثر من المثقف. بل أصبح هذا الأخير، يجد نفسه في حصار دائم ومنافسة شرسة من لدن المؤثرين وصنّاع المحتوي ممّن يحشدون وراءهم جماهيرهم المتعطّشة لمعرفة علاقاتهم الحميمية ومشاكلهم الشخصية.
ما دور الثقافة إذا لم تكُن مؤثّرة في الراهن المغربي؟ ما الغاية من إقامة معارض كتب إذا لم تعرف في ثناياها جدلاً معرفياً حقيقياً يشارك فيه المثقف، باعتباره شخصاً حاملاً لمشروع فكريّ ورأسمال رمزي حقيقي؟