وعلى الرغم من سيطرة الأدب على سوق النشر وحرص الناشرين على نشر الأدب بكثرة مقارنة مع الدراسات ذات الصلة بالسوسيولوجيا والتاريخ وعلم النفس والأنثروبولوجيا، فإنّ ما يُنشر أدبياً يظلّ هزيلاً مقارنة بالدراسات النقدية. وحتّى القارئ العربي فطن إلى أهمية الدراسات النقدية في المغرب بالمقارنة مع ما يُكتب في الأدب الآن. في حين أنّ الأدب المغربي كان منذ مرحلة السبعينيات أدباً مؤسّساً ومؤثّراً في الجغرافية العربية وذلك بسبب أصالته وسبقه المعرفي في طرق العديد من القضايا والإشكالات ذات الصلة بالمجتمع.
ولا شك أنّ الخطاب الشعري السبعيني مع كلّ من محمّد بنيس وعبد الله زريقة ومحمّد بنطلحة وعبد الله راجع وغيرهم، يعتبر من المُحرّكات الأساسية التي أعطت للأدب المغربي قيمته ووهجه. فالأدب لم يكُن خلال هذه المرحلة بذخاً جمالياً وإنّما عبارة عن مشروع ثقافي يحمل في باطنه هموم ومَشاغل الإنسان تجاه تحوّلات سياسية واجتماعية شهدها البلد.
اليوم ونحن نقف على أعتاب الدخول الثقافي الجديد، تُطالعنا أعداد هائلة من الإنتاجات الأدبيّة التي تجعل المرء يستغرب من عدد الأدباء الذين لا نعرف من هم ولا كيف يكتبون أو لماذا يكتبون. في حين يبدو الناشر أنّه لا يُمانع نشر كلّ هذه المؤلفات الأدبية، مادامت تحقق له رواجاً اقتصادياً. فإذا تتبعنا طبيعة المؤلّفات التي تعرف إقبالاً كثيفاً، سنجد أنّ جنس الرواية يحتلّ فيها مكانة كبيرة. فالشعر مثلاً قليل ولا يحظى بأهمية بالغة عن القارئ مقارنة بالرواية. كما أنّ النقد نفسه لا يهتمّ بالإنتاج الشعري وتجاربه، أيْ أنّ مُجمله لا يُتابع ولا يُعاين الدواوين الجديدة التي تُنشر هنا وهناك. كما أنّ هناك العديد من الناشرين الذي لا يرغبون في نشر الدواوين الشعرية على أساس أنّ الشعر لا يُباع وغير مرغوبٍ فيه من لدن القارئ.
والحقيقة أنّ مثل هذه الاختيارات اللاثقافيّة التي تنمّ عن سوء فهم المشروع الثقافي الوطني تُضاعف من منسوب سيطرة الأدب السخيف على سوق النشر. لسنا هنا ضدّ الأدب الذي نُدافع عن أهميته وقيمته وأصالته في تجميل الحياة اليوميّة. لكنّنا في حاجة إلى أدب حقيقي ينطلق من كينونة الإنسان ويلتصق بمسام المجتمع ويُفجّر النزعات البشرية واختلالها ويتناول سيرة الحروب وقهر الأنظمة القمعية وجبروتها. أدبٌ يحاول أنْ يُقدّم صورة حقيقية عن المجتمع الذي ينتمي إليه، دون السقوط في أدب باهت. والحال أنّنا حينما نقرأ روايات محمّد شكري ومحمّد زفزاف وقصائد عبد الله زريقة وعبد اللطيف اللعبي وقصص أبو يوسف طه وأحمد المديني نجد أنفسنا أمام أدب حقيقي مكتوب بلغةٍ أدبيّة أصيلة، أدبٌ في عمقه عبارة عن صورة حقيقية لما عاشه المغرب. بهذه الطريقة يصبح الأدب عبارة عن وثيقة تاريخيّة تُؤرّخ لمختلف المراحل السياسيّة والاجتماعية التي يمُرّ منها المجتمع.