من وسط مضيق البوسفور، تقف البنايات شامخة، مُتلوّنة بألف لون. نسيم البحر الهائج والبواخر التي ترسو وسط الميناء فتمخر عباب البحر، تشعر أنّك في مدينة مُستيقظة من العدم، بل خارجة من سراديب التاريخ. هذا الشعور بفتنة الجمال، يُصاب به أيّ شخص يزور المدينة أوّل مرّة، ويُحاول عبرها بناء جسر بصريّ مُتخيّل بين ما يحلم به في ذاته وما يوجد حقيقة على أرض الواقع. منذ مطار « صبيحة » الدولي، يتبادر إلى ذهنك أنّ الأحلام الوردية التي كوّنتها عن إسطنبول ومسلسلاتها وغرامياتها الساذجة التي لا تنتهي، لا علاقة لها بالواقع المُضطرب كما عاينته هناك. إنّها مدينة الكلّ التي لا يستطيع الواحد أنْ يتآلف مع أناسها وساكنتها. فالسوريون والتونسيون وغيرهم، يُجمّلون المدينة ويعطونها هوية عربية مُذهلة، من خلال الابتسامة التي يستقبلون بها الزائر للمدينة داخل الأسواق والمحلّات التجارية الشعبية والمقاهي والحانات.
في مطعمٍ تركي صغير وجميل، تعودت على تناول العشاء فيه، تعرفت على أختين مغربيتين يعملان هناك بجدّ وتفانٍ داخل المطعم. يُساهمان في إعداد الوجبات التركية وينسجون بابتسامتهم الصادقة مع الزبناء حكايات صداقة وأخوّة واحترام. ورغم ساعات العمل الطويلة والأجر الشهري الهزيل، الذي يحصلون عليه، يعاملهم الأتراك بطريقة ذكورية وينسون أنّهم نساء. يحتقرونهم لأنّهن مغربيّات ويدفعونهم للعمل أكثر من أجل الاستسلام لرغباتهم.
ترفض فاطمة الزهراء العودة إلى مدينتها الصغيرة خلال هذه الفترة من حياتها، مع أنّها تحلم أنْ يكون لها مطعم تركي للوجبات الخفيفة بالمغرب. لم تدرس فاطمة الزهراء إلى النزر القليل في حياتها، لكنّها تمتلك وعياً كبيراً بالطبخ رفقة أختها الصغيرة خديجة. في بعض المساءات كُنت أحسّ رفقة بعض الأصدقاء والصديقات بالتعب الكبير من التجوّل وسط المدينة، لكنْ بسبب ذلك التعامل الطيّب من طرفهنّ أصبحت أذهب بشكلٍ يوميّ فقط من أجل الاطمئنان عليهنّ لا أكثر. حتّى أصبحا ينتظران هم أيضاً وصولي إلى المطعم كلّ ليلةٍ. وبينما يتجوّلان بين الموائد ويستعرضان الصحون الشهية على المارّة والضيوف، كُنّا نختلس الضحكات ونفتخر أنّنا مغاربة. نُقهقه عالياً على الأرز التركي ونتذكّر « الطاجين » و« الكسكس » و« الرفيسة » في المغرب، ونفرح لأنّنا ننتمي إلى بلدٍ يمتلك تاريخاً عظيماً في الطبخ.
لم أتخيّل في حياتي، أنْ يكون الأتراك بكلّ تلك العنصرية التي عاينتها عن قرب هناك. بمجرّد نزولك من المطار لا يستقبلك الناس بابتسامةٍ واحدةٍ. وجوهٌ متجهّمة وأخرى عابسة. عنصرية واحتقار. نظرات غضبٍ مُوجّهة لكلّ الناس الذين يأتون للمدينة. لكنْ بعد أيام تعرف أنّ الأتراك ينظرون إلى ساكنة المنطقة المغاربيّة ويعتقدون أنّهم سوريون، لأنّهم يعتبرونهم السبب في الأزمة التي يعيشونها من غلاءٍ في المَعيشة وارتفاعٍ للأسعار.
لكنْ ما الذي تبقّى للأتراك ما يفتخرون به؟ إنّهم يعيشون وفق نظام سياسيّ « خوانجي » يتحدّث باسم الدين ويجعلونه الأفق المُتخيّل لكلّ أجندةٍ سياسيّة مُقبلة. السياسة تبتلع كلّ شيء في تركيا وتدفع المجتمع للتعامل بطريقةٍ عدوانية مع الآخر الذي يأتي ضيفاً لزيارة مدينة إسطنبول والاستمتاع ببحرها ومعمارها ومساجدها ومقاهيها وأسواقها الشعبيّة المُنتشرة على طول المدينة.
رغم الفروقات المُختلفة بين دول العالم من ناحية التاريخ والإيديولوجيا، يبقى الأتراك أكثر الشعوب عنصرية الذين شاهدتهم في حياتي. يستغرب المرء من الأسباب التي تجعلهم يحتقرون باقي المجتمعات العربيّة. هل يعتقدون أنّ زمن الإمبراطورية العثمانية وتوسّعاتها ما يزال مُؤثّراً في حاضر البلاد العربيّة وراهنها؟ لا شيء من هذا يحدث. كلّ شيءٍ تغيّر.
ما الذي يفتخر به الأتراك؟ الأرز السيء الذي يُقدّمونه في كلّ الوجبات، ابتداءً من الصباح؟ أم برودة مشاعرهم وهم ينظرون باحتقار إلى الناس ووجوههم مُتجهّمة؟
كلّما تذكّرت مدينة إسطنبول التي أحبّها، أتذكّر أنّ لي هناك: أختان مغربيتان قويتان يقاومن كآبة الأتراك وشرّهم من خلال الاستمرار في الحلم، على أساس العودة إلى بلدهما يوماً ليغرسا فيه معاً: وردة.