رافق دورة هذه السنة من كرنفال «بوجلود»، الذي يقام سنويا على الخصوص في مدن وقرى جهة سوس بمناسبة عيد الأضحى، جدل واسع على منصات التواصل الاجتماعي، بين رافضين لأشكاله الاحتفالية، القائمة بحسبهم على «طقوس وثنية وشيطانية تعارض الدين الإسلامي»، وبين مدافعين عن الحفاظ على هذا الموروث الثقافي، الذي تعود جذوره لقرون.
يُعرف كرنفال «بوجلود» أيضا بأسماء «بيلماون» أو «بولبطاين»، وهو تقليد شعبي أمازيغي يعقب الأيام التي تلي عيد الأضحى، يتم خلاله تنكر مجموعة من الشباب والشابات بأزياء وأقنعة غريبة ومخيفة، مصنوعة بشكل رئيسي من جلود الماعز والخرفان، ويتجولون في الشوارع وسط أصوات الطبول والأهازيج الشعبية لنشر الفرح والسعادة. ويحملون سيقان الأغنام أو الماعز التي يستخدمونها لتهديد من يرفضون إعطاءهم الهدايا أو المال. وكل من لم يمنحهم هدية فإن المبدأ يقتضي أن ينال ضربة خفيفة بالساق في أجواء مرحة، تندرج في إطار ما يسمى في الأعراف المحلية بـ»بَركة «العيد.
ويعتبر هذا الاستعراض واحدا من أبرز الاحتفالات التي تقام بالمغرب عقب عيد الأضحى، حيث يشارك فيه الآلاف من السكان والسياح الراغبين في استكشاف هذه التقاليد التي تبتدئ من اليوم الثاني لعيد الأضحى، وتستمر لمدة أسبوع.
وتطورت هذه المناسبة التنكرية المعروفة باسم «بوجلود»، والتي يعود تاريخها وفقا للباحثين إلى قرون ما قبل الإسلام، من حدث ينظمه سكان القرى الأمازيغية إلى كرنفال فني كبير يقام في مدينة الدشيرة بضواحي أكادير.
واستحدثت أيضا عناصر الاحتفالية في «بوجلود»، حيث تطورت المظاهر الفنية من ارتداء جلود الماعز والخرفان ووضع القرون إلى تعبيرات فنية جديدة، سواء في اللباس أو الأقنعة التنكرية المستخدمة. وبات المهرجان يجذب اهتماما ومتابعة متزايدة، ويثير نقاشات حول الأزياء والطقوس التي يتخللها والتي تعتبرها بعض الأصوات «وثنية».
تقليعات مثيرة للجدل
على مدى الأيام السابقة، ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بنقاش حاد بشأن الأزياء والأقنعة والطقوس الاحتفالية المنظمة. فقد أغضبت التغييرات التي أحدثها هذا العام منظمو كرنفال بوجلود على الأقنعة والأزياء التنكرية، كثيرا من المنتقدين الذين طالبوا بمنع الاحتفال بهذا التقليد، بسبب ما وصفوه بأنه «انحراف عن الطابع التقليدي للكرنفال من خلال ارتداء الشباب لأزياء تنكرية ووضع مكياج سينمائي»، في حين رحب آخرون بالتغييرات التي اعتبروها تسهم في إبراز الطابع الوطني لهذا الاحتفال.
وعلّق أحد الشباب على صور «بوجلود» على فيسبوك قائلا: «يقال إنه إبداع وتراث وثقافة أمازيغية.. لكنه في الواقع مسخ ويسيء استغلال التراث والثقافة الأمازيغية». وكتبت إحدى المشاركات الأخريات التي شاركت صورًا من الكرنفال: «الأمر المخيف هو أن مثل هذه الكرنفالات تتحول بعيدًا عن اسمها الحقيقي بوجلود».
وكتب آخر منتقدا: «الأمم المتقدمة تجاوزت هذه المراحل بسنوات ضوئية.. على مرّ العصور وفي جميع الثقافات والعادات التي تحترم الإنسان، لم يكن يوما التلبس بلباس الحيوانات والأقنعة مصدر بهجة وسرور».
وغرد معلق آخر في صفحته على موقع تويتر قائلا: «قديما كان الهدف من بوجلود جمع المال ومساعدة أهل القرية، لكن في السنوات الأخيرة، خرج على السيطرة، وأصبح بوجلود ميوعة وتشبه بالنساء واستعمال مساحيق التجميل، وبالتالي ليس من الفطرة السليمة، وحتى الكرنفال ككل لا علاقة له بقيمنا وديننا الإسلامي».
من جانب آخر، تعبّر مدافعة عن هذا الطقس الاحتفالي عن فخرها بتقاليد وتراث وثقافة الشعب المغربي، وتعبر عن رغبتها في التمسك بهذه القيم وعدم نسيانها. وأعربت عن تأييدها لإقامة كرنفال عالمي لثقافة بوجلود في مدينة أكادير.
وقال معلق آخر: «ما أسهل الانتقاد. بالنسبة لي فإن بوجلود موروث تقافي مهم يجب المحافظة عليه ولكن شريطة تنقيته من الشوائب السلبية، أما إن أردنا حذف أي شيء يضم سلبيات فإن علينا أن نهدم المغرب كله كي نعيد بناءه..».
بوجلود.. بين التقليد والتطور
بالنسبة للحسين بويعقوبي، الأستاذ الباحث في الأنثروبولوجيا بجامعة ابن زهر بأكادير، فقد اعتاد على هذا الجدل حول بوجلود في كل عام. لكن أكثر ما يغضبه في كل ما يقال بين مؤيد ومعارض هو «ادعاء البعض تملكه للصورة الحقيقية التي يجب أن يظهر عليها بيلماون»، ويعتبرونها الصورة «الأصيلة» التي لا يجب أن يخرج عنها.
وأوضح بويعقوبي في مقال نشره على صفحته على فيسبوك قائلاً: «في الحقيقة، تلك الصورة التي يعتمد عليها هذا التراث لا تعكس سوى سياقها التاريخي والإمكانيات المتاحة في ذلك الوقت. إنها بطبيعتها بسيطة ومحلية، وتقل فيها التأثيرات الخارجية بسبب قلة الاتصال بما يحدث في العالم».
وأضاف أن «الأدوار التي يلعبها «بوجلود» في كل سياق مرتبطة بذلك السياق نفسه. ومع ذلك، لا أحد اهتم بالبحث عن كيفية ممارسة «بوجلود» في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، والتي يعتبرها البعض مرجعية لتحديد هوية «بوجلود» المطلوبة اليوم. فإذا عدنا إلى القرن التاسع عشر، فسنجد أن «بوجلود» في منتصف القرن العشرين قد تغير كثيراً».
ويرى بويعقوبي أن ما نسمعه اليوم من الدعوات لمنع «بوجلود» من التطور والتأثيرات الناتجة عن سياق القرن الحادي والعشرين، حيث يتاح للشباب إمكانات إبداعية أكبر ويعيشون في سياق العولمة، يعكس ضرورة التطور.
وحول مشاركة الإناث في هذا الاستعراض الذي كان حكرا على الذكور، قال هذا الباحث إن «تتبع تطور الكرنفالات العالمية يسمح لنا بفهم ما يقع اليوم في «بيلماون»، ويفضي الشرعية على كل الإبداعات الشبابية وكل الخطابات التي تحملها، لأن الكرنفال خلق ليعطي للمجتمعات فضاء حرا للخروج عن المألوف، وكسر القواعد، وإنتاج خطابات نقدية للمجتمع تساير كل سياق».
وأوضح أن الفتيات بدأن ممارسة «بيلماون» كما ولجن فضاءات أخرى كانت في البداية حكرا على الرجال، مؤكدا أن الأمر شبيه بكل الكرنفالات العالمية، التي كانت في البداية خاصة بالذكور.
وأكد بويعقوبي أن تراث «بوجلود» هو نتاج تطور المجتمع ويتأثر به، ويعكس القضايا المطروحة في كل سياق. ولا يمكن فرض هوية معينة عليه، كما يعتقد بعض الأشخاص، أنها «الصورة» المثالية له.
إقرأ أيضا : بالفيديو: هكذا احتفل سكان أكادير ببيلماون بوجلود
تراث شعبي ضارب في التاريخ
يُرجع باحثون جذور كرنفال «بوجلود» إلى قرون ما قبل الإسلام، ويعتقدون أنه كان مناسبة تنظم بين أهالي المناطق الأمازيغية في شمال إفريقيا. وتؤكد الدراسات أن نقوشا صخرية مكتشفة بالمغرب، وبالمواقع الأثرية الفرعونية بمصر، توحي بقدم هذا الطقس، كما أن من الباحثين من يربطه بـ»فترة عبادة الإله آمون، ورمزيته من خلال حمل رؤوس الماعز والخرفان».
وتشير بعض الآراء إلى أن أصول طقس «بوجلود» في المغرب تعود إلى إفريقيا، حيث يعتقدون أنه مستوحى من أساطير قديمة تتحدث عن وحش تتدلى منه الجلود ويثير الرعب في البوادي النائية.
وفي إحدى الروايات، يرجع أصل «بوجلود» إلى زمن كان فيه اللصوص يستخدمون جلود الحيوانات للتخفي وارتكاب جرائمهم دون أن يتعرف عليهم أحد.
أما بالنسبة للباحثين في التاريخ، فإن «بوجلود» يعد واحدًا من الكرنفالات المغربية الغنية بالدلالات والتركيب المعقد. يهدف هذا الطقس في المقام الأول إلى جمع سكان القرية لمشاهدة تجسيد الشخصية المرتبطة به.
وهناك وجهات نظر أخرى تعيد «بوجلود» إلى عهد الرومان، حيث كانوا يحتفلون بطقوس «ديونيسيس»، ويجوبون المدينة في موكب يتكون من ممثلين يرتدون أقنعة ويرافقهم الأطفال ويغنون الأناشيد الدينية.
ومع مرور الوقت، تحول هذا الطقس إلى تقليد مرتبط بعيد الأضحى، حيث يرتدي الشباب جلود الأضاحي، لإحياء طقوس تقليدية تجمع بين الموسيقى والغناء والرقص بصحبة الأطفال. ويحرص سكان الجنوب الغربي للمغرب، وأغلبيتهم من الأمازيغ، على العزف على آلات موسيقية محلية مثل الطبل والدف.
يتم اختيار جلود الأضاحي لتجسيد شخصية «بوجلود»، ويفضل استخدام جلود الماعز بسبب خفتها ومرونتها. يجوب «بوجلود» القرية أو المدينة ويجمع المال وجلود الأكباش التي يبيعها للحصول على الربح. تستخدم هذه الأموال لمساعدة المرضى والمحتاجين، أو لإصلاح الطرقات في القرية أو استكمال بناء المساجد وغيرها من الأعمال الخيرية التي يستفيد منها سكان المنطقة.
ومع ذلك، فإن هناك تغيرا حدث في الآونة الأخيرة حيث بدأ الشباب الذي يجسدون شخصية «بوجلود» في تقاسم الأموال بينهم.
في السنوات الأخيرة، أصبح الناس من مختلف المناطق وحتى الأجانب يتوجهون إلى المناطق الجنوبية في المغرب، وبشكل خاص إلى مدينة أكادير ومنطقة إنزكان المجاورة، لحضور الاحتفالات التي تتميز بالغرابة والإثارة.
ورغم كل الانتقادات التي تطال مهرجان بوجلود كل عام، إلا أن التراث ماضٍ في التطور رافضا لكل أشكال التقادم والنسيان. فقد أعلن مجلس جماعة أكادير، قبل أيام، عن تنظيم الدورة الأولى للملتقى الاحتفالي «بيلماون، الكرنفال الدولي لأكادير»، ما يعني أن بوجلود قد تخطى الفضاء المحلي ووضع رجله بتبات.. إلى جانب المهرجانات العالمية.