هذا وتُعدّ الثقافة الشفهية أحد أبرز الملامح المُميّزة للشخصية الثقافيّة المغربيّة، باعتبارها تُضمر تاريخاً حافلاً بالأسرار وأنتجت عبر عصورها المُختلفة عشرات من الصُوَر والممارسات والعادات والتقاليد، سيما حين يتعلّق الأمر ببلدانٍ إفريقية ضاربة في قدم التاريخ البشري، بما يجعل تاريخها يُساهم في بناء الحاضر. فالتاريخ الإفريقي زاخر بهذه الموروثات الشعبيّة الشفهية المُترسّبة في بنية اللاوعي، وما تزال تحضر بقوّة داخل حياتها اليوميّة، ما دامت علاقتها بالتاريخ أصيلة وتستند دوما عليه في إعطاء شرعية لخطابها وتفسيرها وتحليلها. يتعلّق الأمر بمنظومة فكرية وتاريخيّة لا تقوى على نسيان تاريخها وممارساتها الشعبيّة، لكونها تستكنه ذاتها وجوهرها.
وحسب البلاغ فإنّ « الذاكرة الإفريقية تختزن كنوزا معرفية تتمثل في الحكايات والأهازيج والمبارزات والأمثال والأساطير والملاحم والخرافات وفنون الخطابة، والسؤال الذي يطرح نفسه: ألا تمثل الكلمة الواردة ضمن السرد المحكي أكثر الأقوال تداولا عبر العالم؟ ولماذا كلما تعلق الأمر بعروض ثقافية إفريقية إلا وكانت أولا شفوية على لسان رواة القصص والعرافين والكهنة والمنجمين قبل غيرهم؟».
وإذا كانت الثقافة الشفوية تحظى باهتمام بارز داخل الحياة اليوميّة، فإنّ الخطاب النقدي أو التاريخي أو الأنثروبولوجي الذي رافق الموروث الشعبي، مازال ضعيفاً وهزيلاً ولا يرقى في مُجمله إلى الكتابات الغربيّة، أوّلاً، بسبب الظلم الذي رافق هذا المبحث المعرفي داخل الجامعة، بوصفها تنتج خطاباً هامشياً لا يرقى إلى خطاب المركز. وهذا الرأي كان قد كرّسه عبد الله العروي في كتابه « الإيديولوجية العربية المعاصرة ». أمّا الجانب الثاني، فيعود إلى البعد التركيبي الذي يطبع هذه الثقافة الشفوية وقدرتها على التأرجح بين الأدب والتاريخ والأنثروبولوجيا، بما يجعل الباحث يجد صعوبات جمّة في تحصين هذه المعارف واستيعابها ثمّ إعادة بلورتها داخل خطاب مُركّز يُفكّك التراث الإفريقي بكلّ ما يزخر به من صور وممارسات.