يستند الكتاب على أرضية ثقافية صلبة تُعاين عن قرب قضايا في عمومها ذات صلة بالثقافة مثل الثقافة داخل السجون والعدالة الانتقالية في أمريكا اللاتينية وموقع المغرب من الناحية الأدبية. وهي دراسات تأتي لا لتُجمّع مقالات كُتبت ونُشرت على مدار سنوات داخل مناسبات مختلفة ومتباينة، وإنّما لإعطاء الثقافة المغربية شرعيتها وإضفاء نوعٍ من « التهوية » الجديدة التي تجعلها تبتعد كلّ البعد عن الكتابة النقدية التنميطية القائمة على إعادة إنتاج السيمولاكر من النسخ النقدية المتشابهة التي تحتكم في عمومها إلى مفاهيم وسياقات ونظريات تتّصل بالثقافة الغربية، فينسى الناقد لمسته النقدية على جسد النصّ الأدبي.
والحقيقة أنّ النقد الذي عادة ما يُسمّى بـ « الأكاديمي » هو الذي ساهم في ميلاد وتوحّش هذا النوع من الكتابة التي تحتفي بمفاهيم غربية على عتبة جسد النصّ الأدبي المغربي. لستُ هنا ضد الثقافة الغربية المعاصرة، ولكن ما يصعب قبوله هو أنْ يتحوّل النصّ الأدبي إلى مجرّد ذريعة لاستعراض مفاهيم ونظريات مقتبسة من الثقافة الغربية ويتم إعادة توليفها وإسقاطها على نصوص شعرية وروائية وقصصية قد لا ترقى أحياناً إلى حجم تلك النظريات والمفاهيم، بحيث إنّ هذه الأعمال الأدبيّة تبقى معالمها منسيّة وغامضة بالنسبة للقارئ العادي، إذا لم يعمل الناقد بعدّته المفاهيمية النوعية على تفكيك ميكانيزماتها وعوالمها والأساس الجمالي الذي شُيّدت عليه.
إنّ ما فعله عبد القادر الشاوي في كتابه هذا، أنّه أعاد الاعتبار إلى النقد التحليلي المباشر للثقافة وجعله يخرج من كلّ الأحلام والاستيهامات والانطباعات التي تؤثث نقدنا اليوم. الكتابة هنا تتحوّل إلى أداة لتفكيك الواقع ومطيّة لإعادة التفكير في قضايا وإشكالات ذات صلة بالثقافة العربية في عمومها.
حين يُفكّر الشاوي فهو ينطلق من خصوصية العمل أو السياق أو القضية أو الإشكالية التي يكتب عنها وليس الذهاب إلى استعارة مفاهيم ونظريات الآخر. بهذه الطريقة حرّر صاحب « كتاب الذاكرة » النقد من كلّ ممارسةٍ تقليدية تحكم عليه بالضعف والوهن وتجعله مجرّد خطاب ثقافي عاديّ قريب من البيانات الصحفية.
والحال أنّ هذه الطريقة التي ينهجها الشاوي في الكتابة، كانت موجودة إلى وقتٍ قريب ونتلمّسها بعمق في كتابات محمد برادة وسعيد يقطين وسعيد بنكراد على سبيل المثال لا الحصر، لكنْ بفعل التضخّم المهول للسرديات داخل الثقافة المغربية اليوم، جعل العديد من الباحثين الشباب ينتهجون هذا « النمط » من الكتابة الذي يبقى لصيقاً بإعادة صياغة المفاهيم دون التفكير في اختراق النصّ الأدبي.
حين نقرأ بعض موضوعات الكتاب مثل بلاغة الخطاب السياسي والتحديث والتقليد في المجتمع المغربي والذاكرة وأوهام الماضي والمغرب وإسبانيا وغيرها من الموضوعات التي يتقاطع فيها الثقافي بالسياسي والفكري بالنقدي. نجد أنفسنا أمام خطاب نقدي مغاير لا يستقرّ عند نقطة واحدة ترسو عندها عين القارئ، لكونها دائمة البحث والتشظي، لأنّ الخطاب النقدي هنا موارب ومزدوج يجد منطلقاته المعرفية في العلوم الإنسانية ونظيرتها الاجتماعية.
وإذا كان فعل الكتابة ينطلق من أساس إيديولوجي بامتياز، سواء في القسم الأوّل المتعلّق بقضايا وإشكالات يتمازج فيها السياسي بالثقافي أو القسم الثاني الذي ينطلق من نصوص أدبيّة بعينها عمل الشاوي على تشريحها وملامسة أفقها الجمالي. فذلك يعود أساساً إلى كون عبد القادر الشاوي مناضل حقيقي، ظلّ على مدار سنوات قريباً من الأدب الملتزم القادر على تحويل الروايات والأشعار والمجموعات القصصية إلى مختبرات فكرية قابلة لإعادة التفكير في المجتمع والسياسة على حد سواء. إنّ العمل الأدبي ليس عبارة عن نص بعيد عن الواقع، وإنّما هو كائن ينمو ويترعرع داخل المجتمع بكل شرائحه وأطيافه. إذْ أنّ هذا النشوء داخل المجتمع هو ما يعطيه حرارته الاجتماعية وأبعاده السياسية.
إنّ أهم سمة مركزية يُسجّلها القارئ لكتاب الشاوي كيف عمل هذا الأديب على تحويل الأسلوب النقدي إلى ذريعة للاقتراب من الفكر. وذلك لكون الكتابة في تشكلاتها وتأمّلاتها غير مرتبطة بمفهوم النقد التقليدي المألوف، وإنّما ينحو منحى الفكر المركّب القادر على إعادة صياغة المفاهيم وتشكيل الرؤى والمواقف وجعل السياقات الثقافية تنحرف عن المألوف صوب الغريب المُغترب في ثقافتنا المغربية الحديثة منها والمعاصرة.