يعثر المتابع للساحة الثقافيّة اليوم على تمادي بعض المثقفين في اعتبار أنفسهم متخصصين في كل شيء، في التعليم والثقافة والرياضة والطبخ وربما الغناء أيضاً. هذا النوع يجتاح الوسائط الإعلامية ويُسوّغ لخطاب قد لا يكون دائماً موفّقاً، بحكم أنّه لا يدخل في إطار تخصّصه. فيكون الخطاب عبارة عن كلام عام، لا يليق برجل يُعرف بقدرته على الدقّة واتخاذ المواقف الصائبة. لكنّ سيطرته على الواقع الإعلامي بقنواته وجرائده ومواقعه يدعو إلى السخرية. بل إنّه لا يعمل لا من قريبٍ ولا من بعيد على تجديد مادّته الفكريّة، بما يجعله مساهماً وفاعلاً في تغذية النقاش بين أوساط المجتمع وأهل الثقافة.
ليس مطلوباً من المثقف أنْ يكون طبيباً أو فقيهاً، وذلك لأنّ وظيفته تكمن في التأليف وإنتاج الأفكار وليس إعطاء المواعظ والنصائح. إنّ مهمّة المثقف تتمثّل في الحرص على إغناء رأسماله الرمزيّ بما يُفيد المجتمع الذي ينتمي إليه. فكتابات عبد الله العروي وعبد الكبير الخطيبي ومحمّد عابد الجابري، عبارة عن كتابات تُحرّر المرء من الداخل وتجعله يقف في مواجهة واقعه وتاريخه. أيْ أنّ الكتابة هنا ليست بذخاً فكرياً وإنّما ضرورة مُلحّة لإنقاذ المجتمع ممّا ظلّ عالقاً فيه من تأخّر وقهر وتقليد.
المثقف الببغاء هو نموذج المثقف الذي يتحدّث بلسان غيره، أيْ المثقف الذي أصبح يحاضر في كلّ شيء ولا شيء. إنّه كائنٌ يتلوّن مع الأحداث ويُوجّه خطابه لا وفق قناعاته ولكنْ عبر ما يطفح في الواقع من أحداث وتحوّلات. بل إنّ هذا المثقف يضاهي السياسي في تلاعبه وفي بهرجة خطابه المدجّن بالجهل والعمومية. ورغم أنّ وجود العديد من الأسماء الثقافيّة التي تتحاشى الإعلام وتعتبر أنّ المثقف وظيفته تكمن في الكتابة والتأليف، فهذا النوع من المثقف يستحوذ على المشهد الإعلامي ويُحوّل الخطاب الثقافي إلى خطاب يسهل الحديث فيه. إنّ المثقف في هذه الحالة يصبح مثل الداعية، لا فرق بالنسبة له بين الخطاب الثقافي وباقي الأشكال الأخرى، مادام أنّ الأمر يتعلّق بلغةٍ يسهل عجنها وفق أشكال خطابية يسهل عجينها بالنسبة له.