والحقيقة أنّه رغم الندوات والكتب واللقاءات ومُختلف أشكال الاحتفاءات التي باتت سطحية وعبارة عن حفلات وأعراس أكثر من كونها مناظرات علمية حول أسماء كبيرة في البحث السوسيولوجي مثل عبد الكبير الخطيبي وبول باسكون ومحمد جسوس وفاطمة المرنيسي، لا يعثر القارئ على أثر فعلي لهم داخل البحث السوسيولوجي اليوم. إذْ لا توجد مشاريع فكرية رافقت منجزهم السوسيولوجي وعملت على تثمينه والتعريف به داخل أطروحات جامعية وكتب وسلاسل ومجلاّت تعمل على إعادة التفكير في النماذج السوسيولوجية الأولى وخلق نوعٍ من التحاور معها، بل ونقدها وتفكيكها على ضوء معطيات جديدة وتحوّلات ذات أثر ضارب في الواقع المغربي.
وباستثناء أسماء قليلة، لا نعثر على تجارب بحثية عميقة بالنظّر إلى البواكير الأولى التي تُمثّل حاجزاً بالنسبة للكتابات الاستشراقية. والحقّ أنّ هذا التهميش الذي طال البحث السوسيولوجي وجعله هشاً وغير مؤثّر ببنياته المعرفية وبمناهجه ومفاهيمه راجع إلى البعد التقني الذي أصبح يطبع الباحث في علم الاجتماع داخل الجامعة، من كونه باحثاً وكاتباً ومُفكّراً في قضايا سوسيولوجية آنية إلى رجل تقني يُوقّع على الأوراق ويجمع الاستمارات ويُدرّس مبادئ التفكير السوسيولوجي ومناهجه.
لسنوات وأنا طالب بالجامعة عاينت داخل مدرّجاتها كيف يتحوّل علم الاجتماع إلى ضربٍ من « الحلقة » الساحرة الذي تُصبح بموجبه أعتى النظريات الاجتماعية أشبه بالأمثلة الشعبية، وما يُرافقها من تبسيط سطحي على مستوى شرح تلك النظريات ومفاهيمها. ففي الوقت الذي أصبح فيه الواقع يطرح أسئلة قلقة غير مؤجّلة، ماتزال السوسيولوجيا تقف عند حدود المؤسّس الحقيقي لعلم الاجتماع وكأنّ معرفة المؤسّس هو الذي سيقودنا إلى إيجاد حلولٍ ملموسة في علاقة الفرد بمجتمع. والحقّ أنّ الواقع المغربي اليوم، يحبل بالعديد من الظواهر المربكة التي تحتاج إلى تأمّل عميق من أجل استنبات سوسيولوجيا نابعة من التربة المغربية ومُتخلّصة من النظريات الفكريّة العامّة التي تُسقط بين الفينة والأخرى على بعض الظواهر الاجتماعية. إنّ النظرية ليست عقيدة دينية ولا شعاراً سياسياً من شأنه توجيه أفق البحث، بل عبارة عن أفكار قاد تُعطي نجاعتها في بعض السياقات والعكس أيضاً.
يُفسّر غالبية الجامعيين المغاربة أسباب هشاشة البحث السوسيولوجي بقلّة دعم البحوث العلوم الاجتماعية، وكأنّ الدعم له علاقة بالتفكير، في حين أنّ المشكل منهجي له علاقة بالتكوين الفكري وإلى أي حد يستطيع الباحث استغلال تكوينه المعرفي وتحصيله المنهجي وقدراته في التفكير والتأمّل والتحليل على استنبات مقدرة على تحليل ظاهرة اجتماعية ما والاشتغال عليها وفق مشروع سوسيولوجي يستشكل البراديغمات والمفاهيم ويُحوّلها إلى مداخل حقيقية لاجتراح مشروع فكري. صحيح أنّ دعم البحوث في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية قليلٌ ولا يرقى إلى باقي المؤسّسات الغربية، إلاّ أنّه ليس في هذه الحالة السبب الحقيقي الكامن وراء هاشة البحث السوسيولوجي الذي تحوّل إلى كتابات أدبية تعطي انطباعاً أولياً حول ظواهر اجتماعية أكثر من كونها تُحرّض الفكر على الانغماس في مسام الواقع المغربي وأوجاعه.