شخصياً، ليس لديّ مانع من مشاهدة مباريات كرة القدم، ذلك إنّها الرياضة الأكثر شعبية في العالم، بل وتُتيح لي أحياناً شعوراً بالراحة وممارسة نوعٍ من النوسطالجيا الخفية الساحرة مع طفولتي فوق ملاعب عبارة عن حجر وتراب. مشاهدة كرة القدم هي في حدّ ذاتها تدخل ضمن ثقافة الحداثة التي تُحقّق للمرء متعته الخاصّة وهو يُشاهد فريقة المفضّل يُبدع في اللعب ويُحقّق انتصارات كبيرة على خصومه. لكنْ ما لا أقبله ولا أستسيغه أنْ تتحوّل المقاهي في عدد من المدن إلى ملاعب لكرة القدم وأمكنة لاستنزاف الوقت والصراخ وبذل مجهود في شيء هو في عمقه مجرّد خرافة وهباء. إلى حدود نهاية التسعينيات كانت المقاهي المغربية تمتلك أصالة من نواحي عديد تتّصل بالإكسيسوار والنظافة وشكل البناء وطريقة التسيير وكانت العديد من هذه المقاهي تُنظّم داخلها ندوات وتقام لقاءات أدبية تُعرّف بالعديد من كتّاب وأدباء الهامش.
وعملت هذه المقاهي الشعبية طيلة سنوات على تكريس فعل القراءة وجعلها أفقاً مجتمعياً عبر تزويد هذه الفضاءات بكتبٍ عامة ومجلات متنوّعة تزيد من حماسة رواد المقهى وتدفعهم إلى الانخراط بشكل طبيعي في بعض اللقاءات الأدبيّة وتقديم مواقفهم في بعض القضايا المتّصلة بالمجتمع انطلاقاً من الأعمال الأدبية ونظيرتها الفنية.
المقاهي اليوم تبدو عبارة عن مزابل وأمكنة للترفيه والاستهلاك أكثر من كونها فضاءات للتفكير. ولا شك أنّ ثقافة الملاعب الرياضية جعله المقاهي تبدو وكأنّها نسخ مصغّرة عنها، يأتي الزائر إلى المقهى وفي مخيّلته الملعب. إنّنا اليوم في زمن التفاهة المقنّنة في حاجةٍ ماسة إلى مقاهي تحترم روادها وتحترم الذوق الرفيع للمغاربة الذي عُرفوا به عبر تاريخهم وذاكرتهم. نحن اليوم في حاجةٍ إلى مقاهي مفتوحة تُقدّم الراحة للناس وتُساعدهم على خلف بيئة ثقافية للتفكير في قضايا مجتمعهم والعمل على تغييره. إذْ نادراً ما يعثر المرء على شخص يقرأ داخل المقهى وحتّى إنْ وُجد فإنّ المتواجدين بالمقهى ينظرون إلى ذلك الشخص وكأنّه نازلٌ من كواكب ومجرّات أخرى لا يعرفونها.
مع العلم أنّه لحدود التسعينيات، ظلّت المقاهي فضاءات ثقافية بامتياز، فغياب بعضها من توفير كتب صغيرة للناس، لم يكُن يمنعها من تحضير أغلب الجرائد الوطنية، لأنّ الناس كانت تقرأ وتريد معرفة ما يقع في البقعة الجغرافية التي ينتمون إليها.