المحكمة نطقت بأقصى العقوبات الممكنة، والتي طالبت بها النيابة العامة، إذ حكمت على المتهمين الثلاثة بعشر سنوات حبسا نافذا، إضافة إلى غرامة مالية قدرها مليون دينار جزائري لكل واحد منهم، بتهم تتعلق بـ«الفساد الانتخابي» على خلفية شراء توقيعات للترشح.
ولم تكتف المحكمة بذلك، بل مددت العقوبات لتطال أبناء سعيدة نغزة، الذين صدرت بحقهم أحكام بالسجن تتراوح بين ست وثماني سنوات، بينما تراوحت أحكام باقي المتهمين، وعددهم حوالي سبعين، بين البراءة والسجن لمدد تصل إلى ثماني سنوات.
ورغم أن التهم الرسمية تدور حول «منح مزايا غير مستحقة واستغلال النفوذ وتقديم هبات نقدية من أجل جمع توقيعات»، فإن السياق السياسي الذي جرت فيه هذه المحاكمات يضع الكثير من علامات الاستفهام. فالقضية برزت في بداية غشت، قبل نحو شهر فقط من موعد الانتخابات، وأعلنت حينها النيابة العامة فتح تحقيق وتوقيف عشرات الأشخاص، من بينهم منتخبون محليون ووسطاء في حملة جمع التوقيعات.
اللافت في الأمر أن قائمة المرشحين التي قبلتها المحكمة الدستورية تقلصت إلى ثلاثة فقط: عبد المجيد تبون، الذي ترشح بصفته «مستقلاً» رغم دعمه العسكري الواسع والمفضوح، ومرشح جبهة القوى الاشتراكية يوسف أوشيش، وعبد العالي حساني عن حركة مجتمع السلم. أما الباقون، فقد تم استبعادهم لأسباب وصفت بـ«القانونية»، أو زُجّ بهم في دوامة من الملاحقات القضائية.
القضاء يصفّي الحساب مع «الجرأة»
الأحكام التي أصدرتها المحكمة لم تقتصر على المرشحين الثلاثة، بل شملت كذلك أبناء سعيدة نغزة، الذين حكم عليهم بالسجن بين ست وثماني سنوات، بالإضافة إلى نحو سبعين متهماً آخرين، من بينهم منتخبون محليون وأعضاء في الكنفدرالية العامة للمؤسسات، الذين تراوحت إدانتهم بين البراءة وأحكام وصلت إلى ثماني سنوات، بتهم تتعلق بـ«منح مزايا غير مستحقة»، و«استغلال النفوذ»، و«شراء الأصوات».
إقرأ أيضا : الجزائر: القضاء يضع ثلاثة مرشحين تحت الرقابة القضائية بدعوى «الفساد الانتخابي»
لكن خلف هذه التهم التقنية، يرى العديد من المتابعين أن القضية ليست سوى تصفية حسابات سياسية، تم تنفيذها بأدوات قانونية، في بلد باتت فيه مؤسسات القضاء أكثر خضوعا لإرادة السلطة التنفيذية والعسكرية.
مرشحون «مزعجون»
اللافت في هذه الإدانة القضائية أنها طالت مرشحين يُنظر إليهم باعتبارهم أصحاب حظوظ فعلية في خلق دينامية سياسية مختلفة، لو أُتيح لهم التنافس في ظروف نزيهة.
سعيدة نغزة، المعروفة بانتقاداتها الجريئة لنظام الحكم، كانت قد صرحت بعد إقصائها من سباق الترشح: «سأواصل محاربة العصابات إلى أن آخذ حقي بالقانون... إلا إذا قتلوني أو رموني في سجن الحراش». اليوم، تحقق السيناريو الثاني.
أما بلقاسم ساحلي، الوزير الأسبق ورئيس حزب التحالف الجمهوري، فكان يأمل في تقديم خطاب سياسي جمهوري بديل، فيما سعى عبد الحكيم حمادي إلى التموقع كمرشح «رجل الأعمال» القادر على كسر احتكار تبون للواجهة الاقتصادية والسياسية.
انتكاسة حقوقية
هذه الأحكام القضائية تأتي في سياق وصفته منظمات حقوقية بـ«الردة الحقوقية الكبرى» التي تعرفها الجزائر منذ سنوات، حيث تتقلص مساحات الحريات، وتُستغل محاكم البلاد لتقويض أي معارضة سياسية، أو حتى طموح ديمقراطي.
فمن أصل 16 راغبا في الترشح للانتخابات الرئاسية الأخيرة، لم تقبل المحكمة الدستورية سوى ملفات ثلاثة: مرشح العسكر عبد المجيد تبون، ومرشحين اثنين آخرين لم يشكلا أي تهديد حقيقي لمسار الانتخابات.
وتطرح هذه التطورات إشكالية عميقة بشأن الحالة الحقوقية والسياسية في الجزائر، حيث يبدو أن ملامح الدولة البوليسية تزداد وضوحاً مع كل استحقاق انتخابي، عبر استخدام القضاء لتكميم أفواه المعارضين، وإضفاء الشرعية على مسار انتخابي أفرغ من مضمونه.
إن ما جرى يؤكد أن انتخابات 2024 لم تكن سوى مشهدا جديدا في مسرحية سياسية بطلها عبد المجيد تبون، ووراءه جنرالات المؤسسة العسكرية، حيث كانت النتيجة محسومة سلفا، وكل من حاول أن يغير النص، وُضع في خانة « المجرمين » بدعوى الفساد.
مسرحية محسومة
الانتخابات الرئاسية التي جرت في شتنبر 2024 كانت، وفقاً لكثير من المراقبين، « مسرحية محسومة النتائج مسبقاً »، استخدمت فيها أدوات القضاء والإدارة لإقصاء أي صوت معارض أو غير قابل للتطويع.
إقرأ أيضا : رئاسيات الجزائر: العسكر يشرع في «الانتقام» من المترشحين ضد «عمي تبون»
واليوم، بإصدار هذه الأحكام، يبدو أن النظام الجزائري لم يكتف بإقصاء المرشحين السياسيين من صناديق الاقتراع، بل قرر محوهم من المشهد نهائياً خلف القضبان، في مشهد لا يعبر فقط عن تضييق سياسي، بل عن تفكك خطير في منظومة العدالة والحريات العامة في البلاد.
إلى أين تتجه الجزائر؟
هذه الأحكام القضائية الصارمة تعكس، بحسب العديد من المراقبين، رغبة السلطة في تصفية الحسابات مع من خرج عن الطابور، أكثر من كونها تطبيقا نزيها للقانون. فالاتهامات ببيع وشراء التوقيعات، وإن ثبتت جزئيا في بعض الحالات، تُستخدم كذريعة لشرعنة إقصاء كل من قد يشكل تهديدًا ولو رمزياً لمرشح النظام.
وهكذا، تكشف هذه الأحكام القضائية الثقيلة عن حقيقة المشهد السياسي في الجزائر، حيث يُستبدل التنافس الديمقراطي بقمع ممنهج لكل صوت مخالف، وتُستعمل مؤسسات الدولة كأدوات لتصفية الحسابات السياسية. وفي ظل هذا الواقع، تبدو آفاق التغيير مغلقة، ما دامت صناديق الاقتراع تُدار من خلف الستار، وكل محاولة لكسر هذا النسق تُقابل بالتجريم والتنكيل.








