وتأتي قيمة هذه الندوة في كونها تدق ناقوس الخطر حول ما قد يُصيب أو يُهدّد التراث الثقافي من معالم وبنايات وأسوار وقلاع، هي في مجملها عبارة عن تراث مادي يلعب دوراً كبيراً في ترميم الذاكرة الجماعية للمغرب. وبالنّظر إلى التحوّلات الكبيرة التي طالت المجتمع، فإنّ التراث قد أصبح في الآونة الأخيرة يمتلك من الخصائص الفكريّة، ما يجعله مؤثّراً في البناء السوسيو اقتصادي للمجتمع، فهو يفرض على المهتمين عناية خاصّة، سيما داخل بلدٍ تاريخي مثل المغرب.
فهذا الأخير وبحكم تمركزه الجغرافي المُطلّ على البحر الأبيض المتوسّط والمحيط الأطلسي وأيضاً بسبب تعاقب العديد من الدول على تاريخه وذاكرته، فقد ساهم ذلك في تأصيل تجربته التاريخية وجعلها متميّزة من ناحية الغنى والتنوّع. فالتراث المغربي غزير ومتنوّع ويمتلك من الأبعاد التاريخية والجماليّة ما يجعله قوياً وحاضراً ومؤثّراً في الراهن المغربي، خاصة حين يشتدّ الحديث عن الهوية في علاقتها بالعولمة التي غدا من خلالها العالم أشبه ما يكون بقريةٍ صغيرة تختفي فيها الحواجز بين الدول.
في مداخلته الأولى شدّد الباحث خالد أوعسو على أهمية مثل هذه الموضوعات بالنسبة للمؤرّخ. إذْ يعتبر أنّ «الديجيتال» يبرز كمعطى موضوعي فرضته مجموعة من العناصر. أوّلاً وجود الطلب الاجتماعي في المجتمعات المعاصرة الهادف إلى تعميم التقنية. أما الجانب الثاني، فيتمثّل في الطابع العملي الذي يرتبط من جهة بالعلوم الإنسانية والاجتماعية ومن جانب الرقميات من جهةٍ ثانية. وذلك على اعتبار أنّ هناك اليوم احتضان مؤسسي، سواء ما يتعلّق بالجانب التقني أو من لدن السياسات العمومية. فالعلوم الإنسانية أصبحت تُقدم خبرات متواصلة بالنسبة لصناع القرار السياسي وبالتالي أصبحت جزءً من السياسات العمومية.
وأيضاً الحديث عن الرقميات التي أصبحت تُمثّل رهاناً لكل السياسات. من ثمّ اعتبر أوعسو أنّنا «أمام تطوّر خاصّ بالإنتاج التقني وآخر مُرتبط بمقاربات العلوم الإنسانية والاجتماعية وهذا الشيء أدى إلى وجود تداخل وتقارب بين الطرفين». وفي هذا الإطار حدّد الأكاديمي تعريفاً لما يُسمّى بـ « الإنسانيات الرقمية » في كونها « انخراط في البيئة الإلكترونية عبر إقامة جسور بين المعرفة الإنسانية من جهة والعلوم والمعارف ذات الطبيعة التطبيقية من جهة أخرى».
أما الأكاديمية سناء حساب، فقد تطرّقت في مداخلتها التي تبدو أكثر تخصّصاً ووعياً بالمجال الثقافي للحديث عن عملية توثيق ورقمنة التراث الثقافي الذي يحبل به المغرب، حيث سلّطت الضوء على مجموعة من المشاريع والوسائل التي تُعرّف بالتراث وتسعى جاهدة إلى توثيقه وأرشفته. إذْ تفرض التحوّلات المعرفية التي عرفتها العلوم الإنسانية على المؤرّخ أنْ يُجدّد صنعته من خلال الانفتاح على مجال الرقمنة الذي يساهم لا محالة في توثيق التراث الثقافي وضمان حياته.
في حين خصّصت المؤرّخة ليلى مزيان مداخلتها للحديث عن التراث البحري وما يمثله بالنسبة لبلدٍ مثل المغرب. فهناك العديد من الألوان التراثية البحرية مازالت مجهولة خاصّة فيما يتعلّق بالجانب اللامادي المتعلق بالمعجم البحري وغيره من أيضاً من الوسائل المادية ذات الصلة بمجال الصيد وسواها. وشددت ليلى مزيان على أهمية البحر في تاريخ المغرب ومن ثمّ أهميته وقيمته في بلورة ثقافة بحرية تحتاج إلى حدود اليوم عناية كبيرة بتراثها وذاكرتها. ففي المغرب لا نتوفّر على متاحف بحرية كبعض الدول الأخرى، التي تُساعدنا على احتواء تراثنا البحري وإبراز قيمته وأهميته بالنسبة للزائر. على هذا الأساس، يلعب التوثيق والرقمنة دوراً بارزاً في خدمة هذا التراث البحري وتأصيله، حتّى يضمن استمراريته في الأزمنة القادمة.
أما الباحثة أمل ياليد، فقد خصّصت حديثها بشكل خاصّ حول التقنيات والمواقع والطريقة التي بها يُمكن تدبير عملية الرقمنة. في حين خصّص الباحث بدر الدين حديثه حول الفنون التقليدية وقيمتها وضرورة نقلها إلى مجال الرقمنة، إذْ يتعلّق الأمر بفنون ضاربة في قدم الحضارة المغربية وتكتسب شرعية كبيرة بالنسبة للمغرب.