حين تُعلن الجهات الوصية على الشأن السينمائي عن موعد دعم الإنتاجات السينمائية يبدأ الجدل داخل الساحة الفنّية، فتشعر أنّ الكلّ مُهتمّ بالشأن الثقافي، باعتباره قاطرة صوب التحديث. لكنْ بمجرّد مرور فترة الدعم، حتّى ينتهي الجدل وتعود الأمور إلى نصابها. لهذا لا يتوفّر المغرب على بنية فكريّة مُتماسكة، تجعله يغوص بشكلٍ دائم في مرابع السؤال، بقدر ما تظلّ بنيته هشّة ومُهدّدة، لكونها لا تعطي لـ « السؤال » أيّ شرعية علمية، من أجل امتحان المدارك والمكتسبات والتنظيمات والأفكار وغيرها من الأمور التي تلتحم ببنية السينما في المغرب. ذلك إنّ التفكير في وضع لجان تحكيم يتطلّب دراية كبيرة بالشأن الفنّي والعاملين فيه، إذْ لا يجوز اختيار مثقف مهما بلغ رصيده المعرفي، فقط لأنّه كاتب وله رأيّ. مع العلم أنّ الكثير من أهل الثقافة لا تجمعهم بالسينما أيّ علاقة أو قرابة.
ومع ذلك تراهم في لجان تحكيم الدعم السينمائي وقراءة السيناريوهات ودعم الإنتاج التلفزيوني. بل إنّ المُتابع لا يعثر داخل بعض الدورات على أيّ ناقد فنّي أو سينمائي، بما يجعله يطرح أسئلة حول جدواه وقيمته ودوره داخل الحياة السينمائية. بل إنّ وقع الصدمة يزداد بشكلٍ أقوى داخل مهرجاناتٍ تُهمّشه وتدفع إلى الانسحاب من المَشهد، وحتّى إنْ حضر داخل بعضها، يكون مجرّد إكسيسوار جمالي لا أكثر. والحقيقة أنّ هذا الأمر، لا علاقة له بالمغرب فقط، بل في كلّ منظومات دول العالم المعاصر، إذْ نادراً ما نعثر على ناقد داخل لجان تحكيم الجوائز والمهرجات والدعم والتلفزيونات.
يستغرب المرء في المغرب، كيف لشاعر أو قاصّ أو جامعي بمحدودية معرفته بالنصّ وميكانيزمات السيناريو ولعبة التصوير والمونتاج ودلالات الصورة ومُتخيّلها، أنْ يقرأ سيناريو فيلمٍ سينمائي ويُعطي لنفسه شرعية اختيار هذا الفيلم وما إذا كان سيستحقّ هذا الدعم أم لا. والغريب أنّ نصف اللجان التي يُسند لها الإشراف على قراءة سيناريوهات، قد لا ترقى إلى هذا الأمر، إذْ لا أحد يعرفها لكونها غير مساهمة في الشأن السينمائي، إنتاجاً وتمثيلاً وكتابة ونقداً وإخراجاً، باستثناء أسماء نعرف مُسبقاً مدى علاقتها بالسينما وعوالمها.
وأغلب الظّن أنّ هذه الأسماء تأتي وفق رؤيةٍ سياسيّة لا علاقة بالثقافة، ما يُفسّر غضب أهل السينما لحظة الإعلان عن نتائج الدعم أو الجوائز، إذْ لا نعثر داخلها على أيّ نضجٍ أو شجاعة فنّية تُراهن على فيلمٍ سينمائي دون غيره، مادام أنّ الاختيارات تحتكم إلى العلاقات والصداقات التي تُكسّر أخلاقيات العمل الثقافي وتجعله مجرّد سخرة يتم إنجازها.
ثمّة عُرفٌ تقليدي به تعمل المؤسّسات الثقافية والفنّية. فحين تُريد معاينة ملفات سينمائية دائماً ما تُوجّه دعوة إلى الشيوخ، أيّ الأكبر سناً في المجال. وكأنّ عمليات قراء السيناريوهات وتقييمها بعد الإنتاج والتصوير، لا تربطها أيّ علاقة بالمعرفة والتفكير، بل بمدى تقدم السن والخبرة داخل لجان القراءة. في حين، يوجد عشرات الشباب من الوجوه المعروفة داخل المشهد السينمائي، بما تنزلته من مكانة مركزية في العالم، وأصبح لها حضور بارز داخل مهرجاناته ومعاهده ومؤسّساته، لكنّها في السياق المغربي، يُعدّ اختيارها قليلاً إنْ لم يكُن مُنعدماً ومُستحيلاً أمام هؤلاء الشيوخ.
يستغرب المرء من وجود شيخ بتكوينه المعرفي البسيط على رأس لجنة سينمائية. وحين يُقدّم هؤلاء الأشخاص إلى الرأي العام، يتمّ تقديمهم في كونه رواد وشيوخ للسينما المغربيّة، فقط لأنّ بعضهم أنجز فيلماً في السبعينيات أو الثمانينيات، غير أنّه كان قادراً بسببه أنْ يبقى كائناً مُعمّراً داخل لجان السينما.
ماذا يفعل الناقد في هذه الحال؟ هل ينبغي نقد المهرجانات السينمائية والجهر بحقائقها وما تُمارسه من تعتيمٍ على المُشاهد، أم ينحني احتراماً لهذه المهرجانات، ويُبجّل أفلامها ويمدح أنشطتها ويُماري ويُداهن ضيوفها؟