إذْ عَمِلَ منذ سنوات،على أنْ يكون أحد الفنانين والكُتّاب، الذين اعتنوا بالذاكرة التشكيليّة العربيّة إلى جانب كل من السوري طلال معلاّ والعراقي فاروق يوسف والتونسي خليل قويعة، في جعل المجال التشكيلي العربي، يكتسب أهميّة بالغة من التأريخ والفحص والنقد والتحليل، بكيفياتٍ تختلف من واحد إلى آخر، بحكم انتماءاتهم الإبستمولوجية المُختلفة المُؤسّسة لمسار وعيهم الفني والجمالي داخل المنطقة العربيّة، فكان العامري من أبرز هؤلاء الكُتّاب داخل الأردن، عناية بالفنّ العربي المعاصر، سواء من خلال مجلة "التشكيلي العربي" التي حرصت على توثيق الساحة الفنية والعربيّة والانفتاح أكثر على قضايا راهنة، تعترض سير وتقدّم الفنّ العربي أو عن طريق كُتبٍ فنية، سَبَرَ من خلالها أغوار هذا الفنّ وجعله يتنزل منزلة رفيعة داخل متون النقاد والثقافة العربيّة المعاصرة ككّل، كما هو الشأن لكتابه "المرود والمكحلة"(دارخطوط،2021) المُخصّص للتجربة التشكيلية الفلسطينيّة الحديثة منها والمعاصرة، عبر تجارب تشكيلية وسمت الساحة العربيّة، بالكثير من الجدية والمهارة البصرية المدفوعة بهاجس الثورة على مختلف أشكال الاستبداد، التي عانى منها الفنّان الفلسطيني، بحيث إنّ هذه التجارب التشكيلية، بدت أكثر تشبثاً بالهوية والأرض والوطن والمكان الأوّل، وهو تشبث يُضمر في طياته ذاك الجرح، الذي اعترى الفنّان الفلسطيني في ذلك الإبان.
لذلك تُمثّل هذه الأعمال صرخة قوية في وجه الاحتلال، خاصّة وأنّ جميع التجارب التشكيلية الواردة في كتاب العامري، يجمعها هذا الهاجس البصري، المُتمثّل في الدفاع عن الوطن، ما يجعل من مفهوم الذاكرة، يشتغل بشكل أقوى وفق معالجات بصرية شديدة الاختلاف والتباين،بين الأساليب التجريدية والتشخيصية والأخرى الخارجة عن سياق اللوحة المسندية مثل بعض الفنون الحرفية والصور الفوتوغرافية الرائدة المناهضة للاحتلال ومختلف أشكال العنف الرمزي، الذي تُمارسه في قوى الاحتلال، والذي يكون الفنّان هو الأوّل من يتضرّر منه، بسبب حساسيته تجاه وطنه وبلده وناسه، فيلجأ كالعادة إلى الثورة فنياً على هذا الواقع، الذي يُحاول الاحتلال فرضه بطرق غير مشروعة. لكن من جهة، فإنّ الفنّ التشكيلي، يتجاوز هذا البُعد الجمالي الظاهر في الأعمال الفنية، إلى أنْ يغدو وثيقة تاريخيّة وسجل ثوري يوثّق مختلف أشكال الحراك والمقاومة الشرسة، التي أبداها الفنانون على جداريات لوحاتهم، بموضوعات وتوليفات مختلفة ومُتباينة، تبدأ بالتعبير المُباشر، كما هو الشأن للصورة الفوتوغرافية(صورة المرأة التي تُعانق شجرة الزيوت) بسبب حساستها تجاه الحدث، وتنتهي بأعمال تشخيصية أو تجريدية، تُموضع خطابها الثوري داخل اللوحة، دون أنْ تُعلن بشكل مُباشر عن أيّ مُقاومةٍ أو نقدٍ لمُختلف هذه السلط السياسية والعسكرية.
من التجارب الفنية التي عَمِدَ محمد العامري على تشريحها، نجد أعمال كل من نيقولا الصايغ، إسماعيل شموط، عزيزعمرورة، منى حاطوم، عدنان يحيى، محمود طه، رنا بشارة، محمد حواجري، نبيل عناني، سليمان منصور وغيرها من التجارب الفنية الفوتوغرافية الأخرى المُرتبطة بفنّ الجرافيك والخزف، التي ساهمت في تطويع التاريخ الفلسطني وجعله يحتل مركز اللوحة،استناداً على مجموعة من الأيقونات البصرية،التي تعرض لها محمد العامري بالدرس والتحليل مثل شجر الزيتون والصبّار والطين والشهيد وغيرهم من الموضوعات ذات الارتباط بالطوبوغرافية الفلسطينيّة، خاصّة وأنّ هؤلاء الفنانين لم ينطلقوا من فراغٍ، بقدرما شكّل التاريخ الفلسطيني وتراثه الغنيّ مادة خصبة للمُعالجة الجمالية، بكيفيات مُتفاوتة من الأساليب الشكلية والمواد الفنية المحلية المُستعملة، التي تزيد اللوحة جمالاً ونضارة وتجعلها تظلّ مُتمركزة داخل كيانها الوجودي، دون أنْ تستعير هوية أحدٍ.
وهذا الأمر، خلق نوعاً من التماهي، بين فتنة المادة والهوية المُستندة على مفهوم الذاكرة، إذْ من خلالها تبني عوالم الواقع السياسية والاجتماعية، لتُقدّمها إلى العملية الفنية في مُحاولة تخييلها وجعلها تمتطي سيرة المرئي الرمزي. وبالرغم من البُعد السياسي المُضمر داخل هذه الأعمال الفنية، فإنّها تختزن الكثير من الاجتهادات الجمالية على مستوى صناعة العمل وما يدور في فلكه من مفاهيم ومادة وألوان، لها علاقة أساساً بالتطوّرات المفاهيمية، التي اكتسحت الفنّ العربي المعاصر. هذا المفهوم الذي يتبلور جيداً داخل أعمال الفلسطينيّة منى خاطوم، بحيث أنّ هذه الفنانة، تبقى أكثر التجارب العربيّة، التي راهنت على الفنّ المعاصر ووسّعت أفق اشتغالاتها داخل هذا الباراديغم المُركّب، مُتجاوزة أفق اللوحة المسندية ومُشتغلة على الفضاء المفتوح في علاقته بالفنّ وتواشجاته عبر موضوعات مُتنوّعة، تتجاوز أحياناً مفهوم الهوية والذاكرة والتاريخ، صوب مفاهيم ذات علاقة بجرح الفرد وقلقه واضطراباته، إمّا على شكل لوحات أو منحوتات أو فيديوهات أو صور،لكنّها تلتقي حول مصير الفرد داخل العالم ومن قدرة منى حاطوم على تطويع الأشياء الصغيرة التي قد تبدو للمُشاهد لا علاقة بالفنّ، لكنّها تغدو مع الفنانة أكثر عمقاً وعلاقة بالوجود الذي ننتمي إليه، بحيث إنّ هذه المواد والمفردات البصرية الجديدة،التي توظفها حاطوم وباقي التجارب العربيّة الأخرى، مثل الهامش والعابر والزائل، لم يستوعبها الفنّ الحديث عربياً، إلاّ مع اكتساح الموجة الجديدة من التجارب العربيّة التي درست الفنّ داخل معاهد ومدارس غربية، عاملة على استحداث الأشكال وتطويع المواد الهجينة والمُستعملة وجعلها في قلب الأعمال الفنية العربيّة.
كما أنّ استعادة التراث الفلسطيني من لدن هؤلاء الفنانين، لم تُمليه فقط ضرورات وجودية، بقدرما فرضته الضرورة الفنية والجمالية العربيّة، بحيث أنّ التشكيل العربي وجد نفسه أكثر من مرة، أمام جدارٍ منيع لإبتداع مفاهيم جمالية جديدة، جعلته منذ سبعينيات القرن الماضي، يُفكّر في إمكانية جعل جدارية التراث فضاءاً لاستلهام جملة من الرموز والعلامات والأيقونات البصرية، كما هو الشأن في التجربة الفلسطينيّة، بحكم تاريخاها الغنيّ الضارب في القدم، إلاّ أنّ عملية الاستلهام نفسها، لم تأخذ أبعاداً مختلفة داخل كتاب العامري، بسبب تركيزه على الارتباط بمفهوم الأرض والوطن والشتات، أيْ هسيس المكان في أبعاده المُتشعبة، مع العلم، أنّه نجح بقوّة في سبر أغوار المكان وضرورته وأهميته داخل التجربة الفلسطينيّة، بوصفه مُكوناً فنياً وعنصراً جمالياً مُهماً داخلها، جعل الكثير من الدراسات النقدية، تفرد له حيزاً مُهمّاً داخل متونها، تظلّ دراسة "استحضار المكان"(2000) للفنّان والنّاقد الفلسطيني الراحل كمال بلاطه، أعمق هذه الدراسات النقدية، التي أنجزت في هذا الشأن، بحيث أنّها شكلّت علامة مهمّة داخل النقد العربي، نظراً لتخليه عن البُعد السياسي في تفسير النتاج الثقافي والفني العربي، بحيث أنّ تشريح التجربة التشكيلية الفلسطينيّة لديه، انطلقت من اللوحة وانتهت داخلها، ولو أنّ السياق التاريخي أو تأطير تجربة استحضار المكان، ظلّت حاضرة بقوّة، لكنه لم يجعل منها منهجاً للكتابة والمُعاينة، خلافاً لمحمد العامري، الذي تجاوز في مرات كثيرةٍ الأبعاد الفنية والجمالية للتجربة التشكيلية، صوب الاهتمام بالسياقين الاجتماعي والسياسي، اللذين ساهما في إبراز العمل الفني.
كما أنّ السياقات السياسية والاجتماعية، لم ترتبط فقط في كونها المَعين، الذي تمتح منه التجربة التشكيلية عوالمها الفنية والجمالية وتصوغان مُتخيّلهما الوجودي، إذْ أنهما يُشكلان معاً، مدخلاً معرفياً ناجعاً، انعكس أيضاً، على مقاربة العامري في كتابه هذا لخصوصية التشكيل الفلسطيني وجعلته ينصاع بشكلٍ كليّ لهذه السياقات، التي كان من المُمكن أنْ تكون برانية ولا علاقة لها بالعمل الفني، إذا ما تناولت تجربة تشكيلية أخرى، لأنّ هذه الأنساق السياسية والاجتماعية، باتت مُهمّة في تحليل التجربة التشكيلية الفلسطينيّة، لأنّ بها تنطبع وبها تبني عوالمها ووجودها وترسم آفاقها الجمالية.
وهذا الأمر، بدا غير مألوف في كتابات العامري الأخرى المُرتبطة أكثر بحميمية العمل الفني ومسامه وتفاصيله الصغيرة، بحيث أنّ هذا التحوّل صوب المدخل السياسي والاجتماعي، لا تُبرّره سوى طبيعة التجربة التشكيلية الفلسطينيّة المُركبة، التي تفرض مُعاينة دائمة وقدرة هائلة على كتابةٍ تتجاوز النمط النقدي المألوف، صوب قراءة مُتموّجة تمزج بين الذاتي والحميمي والسياسي والاجتماعي والتاريخي والثقافي بمفهومه المُركب (إدوارد تايلر) بغيّة تمكين القارئ أو المُشاهد من فهم خصوصية المرحلة وتأثيرها في النسق الثقافي الفلسطيني، الذي يستدعي ضرورة التفكير في هذه السياقات من أجل إضاءة معالم جدارية التشكيل الفلسطيني وفهم مُنطلقاته الفكرية ومنابعه الفنية وتجلياته الجمالية ومدى قدرته على اختبار نفسه أمام التغيّرات الفنية التي طالت مفهوم الفنّ المعاصر داخل الوطن العربي.
ورغم ذلك، فإنّ الكتابة لدى محمد العامري، لم تتخلى عن عنفوانها وحميميتها، تجاه المواد والأشكال والأساليب الفنية والإقامة في تخومها اللامفكّر فيها وتفكيكها من الداخل، بسبب ممارساته الفنية العملية، التي تجعله قادراً على فهم التحوّلات التقنية، التي تنضح بها هذه الأعمال الفنية. والسبب يعود في الأساس إلى كون العامري فنانٌ تشكيلي، قبل أن يكون ناقداً للتجربة التشكيلية العربيّة ومُساهماً في نقاشاتها وتحوّلاتها، خاصّة وأنّ مفهوم الكتابة لديه في كتابه هذا، تتخلى عن تقريريتها تجاه العمل الفني ومدارسه وأساليبه وتياراته، وتعتني أكثر بمفهوم الأثر الفني، الذي تنحثه التجربة في آنيتها، مايجعل شكل الكتابة على طول صفحات الكتاب تأخذ بعداً "عاشقاً" أكثر من أن تكون دراسة نقدية أو أكاديميّة، نظراً إلى غياب المنج الفكري الذي يُلحم هذه التجارب الفنية الفلسطينيّة وتأطيرها داخل مُتخيّلها الرمزي. وهذه الكتابة العاشقة،التي تنهل من زخم الكتابة الأدبيّة وأدوات تحليلها تعكس التنوّع والغنى، الذي يُقدّمه هؤلاء الفنانون العرب إلى الكتابة التشكيلية، وهي خاصية جمالية تُقوّي النقد الفني ومعه مفهوم العمل، وتجعله مشرعاً على بحر من التأويلات والقراءات المُمكنة، وهي ميزة لا ينفرد بها إلاّ الفنانون العرب، الذين يُمارسون الكتابة النقدية وهم قلائل مثل :الفلسطيني كمال بلاطة والسوري طلال معلاّ والعراقي علي النجار.