تبرز نوعية هذا الاختيار الاستباقي في اختيار العديد من الأفلام لوجوهٍ سينمائية جديدة، تقتحم بقوّة المَشهد السينمائي المغاربيّ، وتتطلّع بعنفوان إلى إعادة زحزحة المركزيّة السينمائية داخل مهرجاناتٍ عربيّة كثيرةٍ، تعمل على تكريس نفس الوجوه الفنّية، بطريقة تجعلها تدور في فلكٍ واحدٍ ويتيمٍ.
لذلك، يبرز اختيار "مهرجان مالمو للسينما العربيّة" للسعودية كضيفة شرف لهذه السنة/ من خلال برنامجٍ ثرّ ومُكثّف بعروض أفلامٍ طويلةٍ وقصيرة وندوةٍ نقديّة ومعرض فوتوغرافي وبرنامج تدريبٍ غنيّ ومُسابقات ومُشاركات خاصّة ببرنامج دعم أيام مالمو لصناعة السينما العربيّة.
لكنّ اقتصار المهرجان على ذلك، لم يمنعه من دعوة جملة من الأسماء الفنّية العربيّة وأهم صنّاع السينما داخل العالم العربي، إلى جانب اختيار وجوهٍ سينمائيةٍ جديدةٍ تُشارك لأوّل مرّة في هذا الحدث السينمائي الاستثنائي داخل السويد، وهي اختياراتٌ موفّقة من ناحية التكوين والصناعة والتخييل، وتُضمر في ذاتها مجهوداً كبيراً على مُستوى التفكير والتنظيم والاختيار، لأنّها تُراهن على نوعٍ من المُوازنة بين الأجيال القديمة والجديدة يضخّ المهرجان في كلّ دورةٍ يُقيمها دماءٌ جديدة وتمنحه حياة أخرى في سيرة وذاكرة السينما العربيّة.
تسرد المخرجة حكاية فتاة مغربيّة، تُساعد أمّها المشلولة وتُقدّم لها خدماتٍ آنية، حيث تعتني بنظافتها وصحّتها وأكلها، بما يجعل "حبال المودة" تتوطّد بين الفتاة ووالدتها. غير أنّ ارتباك الفتاة في أداء أعمال البيت وعلى كلّ ما تمسّه يدها، ثمّ نظراتها العميقة المُتردّدة، صوب واقعها وحالتها الاجتماعية المُتواضعة مع والدتها، تجعل من الصمت المُخيّم على جلّ مَشاهد الفيلم، ذا صبغة جماليّة، يُعطي للفيلم عمقه ويزيد من حدّة تأثير لقطاته في وجدان المُشاهد.
فالصمت ليس مجرّد "إكسيسوار" لا مرئي، تتوسّله وجدان خاليد، من أجل إضفاء دلالاتٍ عميقة على الفيلم، لأنّ وجوده، يبدو مُبرّراً فنياً ودافعاً جمالياً بالنسبة لمفهوم النصّ من الناحية الدرامية، بحيث تستطيع مَشاهده التأثير في الآخر، مهما اختلفت مرجعياته الفنّية والجماليّة، بل وتنسج معه وشائج جماليّة قويّة، بقدر ما تلتحم بفيزيونوميّة الواقع ومآزقه، سرعان ما تنأى عنه في آنٍ واحدٍ.
غير أنّ صمتاً مُؤلماً كهذا في "حبال المودة" لا يُمكنُ النّظر إليه، إلاّ باعتباره يكشف عن حالاتٍ إنسانية عميقة يتستّر عليها النصّ، لكنّ تراتبية الصُوَر تفضحه وتجعله يبرز فنياً على السطح وتزيد الموسيقى التصويرة الضغط على جرحه، بعد أنْ تغدو بعض اللقطات تراجيدية ومُؤثّرة.
هذا على الرغم من وجود تجارب مغربيّة هامّة ومُؤثّرة درست في الخارج، وتمتلك وعياً بصناعتها السينمائية، لكنّها تظلّ قليلة، لأنّ مفهوم التجريب السينمائي، الذي تستند عليه في عملية بلورة عنصر التخييل، يظلّ مُحتشماً وغير فعّالٍ، من حيث ابتكار الصُوَر وإنتاج الأساليب وإعادة توليفها داخل قالب فيلمٍ قصيرٍ مُكثّف وغنيّ، ينضح بشعريّة الصُوَر وزخم الدلالات وقوّة الرموز.
ورغم حرص هذه الوجوه الجديدة على الاشتغال وسعيها الحثيث إلى تسلّق سلّم الشهرة سريعاً عن طريق السوشيال ميديا ووسائطها الاجتماعية الباهتة، فإنّ إمكاناتها تبقى محدودة، كتابة وإنتاجاً وصناعة وتخييلاً، فقلّما يعثر الناقد الفنّي على تجربةٍ سينمائية واعدة، تُحاول ابتكار أفلامٍ جديدةٍ يُعوّل عليها فنياً وجمالياً.
إنّ وجود فيلم "حبال المودّة" لخريجة المعهد العالي لمهن السمعي ـ البصري والسينما (ISMAC) وجدان خاليد، يحمل في طيّاته أكثر من دلالاتٍ فنّية، أوّلاً، بحكم ما يتوفرّ عليه الفيلم من إمكاناتٍ فنّية مقبولة بالنّظر إلى تجربتها وصناعة جماليّة مُذهلة، تُحاول الانفلات من سُلطة النموذج وتكسير شكل السينما المغربيّة القديمة، التي مازالت ترخي بظلالها على واقع السينما المغربيّة وتجعل بعضاً من أفلامها مُكرّرة بطريقةٍ مُستهلكة.
غير أنّ وجدان خالد، لا تضع نفسها هنا، أمام الأشكال والقوالب والنظريات، التي رغم أهمّتها المعرفية داخل الصناعة السينمائية، فهي قد تُؤثّر أحياناً بشكلٍ سلبيّ على مُخيّلة المُخرج، إذْ تقوده إلى التعلّق بمفاهيم تجريدية، أكثر بُعداً وغربة عن الواقع الفيزيقي الذي يُعالجه. لذلك فهي تحرص منذ المَشاهد الأولى من فيلمها، على جعل دفقتها الجماليّة، تبقى خاضعة إلى عوامل ذاتية حميميةٍ، دون أنْ تُفكّر في جعل أيّ مفاهيمٍ أو نظرياتٍ برانية غربيّة، تُوجّه فعل الكتابة والإخراج لديها.
كل هذا، يجعل من الحوارات والمَشاهد واللقطات، تظلّ بدورها خاضعة إلى سُلطة الجسد بكلّ أحلامه وهَواجسه وانكساراته. أمّا الأمر الثاني، فيرتبط أساساً في كون "حبال المودّة" ليس فيلماً ترفيهياً، يُمكنُ مُشاهدته قبل النوم، لأنّه فيلمٌ مُؤلمٌ، يطرح في خطابه البصريّ كثيراً من الأسئلة الأنطولوجية المُتعلّقة بمأساة الواقع المغربيّ وتصدّعاته.
ذلك إنّ أداء الممثّلة المغربيّة جليلة التلمسي، لا يمنح المَشاهد أبعاداً ترفيهية، وإنّما يكسب الصورة السينمائية رصانتها الجماليّة ودلالات فنّية عميقة، أكثر وعياً ونُضجاً وتوغّلاً في ذاكرة الواقع المغربيّ، ما يجعل الفيلم، يبتعد عن كلّ تصوّرٍ ماضويّ قبلي، كوّناه مُسبقاً عن صناعة الفيلم القصير في المغرب، وما بات يُعرف عنه من استخفافٍ و"تجريبٍ" واستسهال.