واعتبر أن القرار 2797 يمثل تتويجا لاستراتيجية ملكية محكمة في تدبير الزمن، كما أسقط القرار بشكل نهائي كل الأطروحات المرتبطة بالاستقلال أو الاستفتاء التي يروج لها الانفصاليون وداعموهم.
يعد عبد الحق باسو واحدا من أبرز الخبراء في القضايا الأمنية بالمغرب، وقد شغل طوال مساره المهني مناصب بارزة داخل المديرية العامة للأمن الوطني، فبين عامي 1978 و1993 تولى رئاسة شرطة الحدود، قبل أن يعين ما بين 2006 و2009 مديرا مركزيا للاستعلامات العامة. اليوم يقدم باسو تحليله بصفته «زميلا أول» بمركز السياسات من أجل الجنوب الجديد.
يقول باسو في « مذكرة سياسات » نشرها مركز السياسات من أجل الجنوب الجديد، تحت عنوان « كرونوس وكايروس في تدبير ملف الصحراء المغربية: التحكم في الزمن ضمن الاستراتيجية الملكية »، إن المغرب لم ينجح فقط في توسيع دائرة الداعمين بعد القرار 2797 الصادر عن مجلس الأمن، بل تمكن أيضا من التحكم في إيقاع المعركة الدبلوماسية. فمن خلال الجمع بين « كرونوس » الاستمرارية و« كايروس » اللحظة المناسبة، برهن المغرب على أن السياسة الخارجية يمكن أن تستند إلى « فلسفة الزمن » بقدر ما تستند إلى « الجغرافيا السياسية ».
وأشار إلى أن المفكرين الإغريق، وفي مقدمتهم « إيسوكرات »، ميزوا بين صورتين للزمان: كرونوس؛ وهو الزمن الخطي، زمن الامتداد والصبر والتدرج والنضج، وكايروس؛ وهو زمن الفرصة، اللحظة الحاسمة التي ينبغي فيها التحرك واغتنام المبادرة أو حرمان الخصم من ذلك.
واعتبر الخبير، أن هذه التفرقة « الإيسوقراطية » تتيح قراءة الإدارة الدبلوماسية والاستراتيجية لملف الصحراء بوصفها عملا دقيقا للتحكم في الزمن، إذ نجح المغرب في توظيف « كرونوس » عبر الاستمرارية والانتظام، من دون أن يغفل « كايروس » الذي تجسده اللحظة المناسبة وما تفتحه من إمكانات للتفاعل والتقاط الفرص.
ويرى أن هذه الجدلية الزمنية، بين « الصبر الاستراتيجي » و« الجاهزية التكتيكية« ، توفر مفتاحا لقراءة تراكم المكاسب الدبلوماسية للمغرب، لأنها تكشف عن « عقيدة زمنية » مترسخة في الدبلوماسية الملكية.
ثبات دبلوماسي متواصل
يقول باسو إن المغرب منذ المسيرة الخضراء عام 1975، اختار نهجا استراتيجيا قائما على ثبات استثنائي في التعامل مع قضية الصحراء. فعلى مدى خمسة عقود، لم تفلح تقلبات السياق الدولي، بكل ما حملته من أزمات وتبدل في موازين القوى، في زعزعة الخط الناظم للسياسة المغربية تجاه أقاليمه الجنوبية.
وأضاف أن ركائز هذا الموقف ظلت ثابتة: ترسيخ مبدأ الوحدة الترابية كأحد ثوابت الدولة، والالتزام بالإطار الأممي بوصفه الفضاء الوحيد للحل، ورفض أي مقاربة مفروضة من الخارج، إلى جانب طرح مبادرة الحكم الذاتي باعتبارها صيغة واقعية تعكس توازنا سياسيا وقابلة للتطبيق.
وأشار إلى أن هذا الثبات مكن المغرب من بناء رصيد زمني من المصداقية فرض نفسه على الأصدقاء والخصوم على حد سواء، مضيفا أن الرباط لم تتخلى عن جوهر موقفها، بينما وجد آخرون أنفسهم يتنقلون بين مواقف متناقضة، ما أفقدهم القدرة على الإقناع، معتبرا أن هذه الصلابة تأتي منسجمة، كما يقول ريمون آرون، مع العلاقة العضوية بين الاستراتيجية والمدة الزمنية: « إن استمرارية الهدف هي التي تمنح معنى لتتابع الوسائل ».
وشدد الخبير على أن إصرار المغرب على الهدف ذاته (تكريس سيادته على الصحراء في إطار مقترح الحكم الذاتي) نجح في تحويل الزمن الطويل إلى رافعة لتعزيز الشرعية، مضيفا أنه في الوقت الذي استنزفت فيه أطراف أخرى طاقتها في المناورات، كان المغرب يراكم المكاسب، ويحصن موقعه، ويحول الزمن الطويل إلى عنصر إضافي في تعزيز شرعيته ومصداقية موقفه.
« الصبر الاستراتيجي » في مواجهة الأزمات
اعتبر باسو أن مسار الدفاع المغربي عن أقاليمه الجنوبية لم يكن « نهرا هادئا »، بل شهد محطات اختبرت استراتيجية الصبر وطول النفس للمملكة.
وأوضح أنه خلال رئاسة جيمي كارتر (1977–1981)، اتخذت الدبلوماسية الأميركية موقفا أكثر انتقادا تجاه الرباط، متأثرة بأبعاد أيديولوجية ترتبط بحقوق الإنسان وبدرجة من التقارب مع المواقف الجزائرية، مضيفا أنه رغم الضغوط، اختار المغرب الصمود بهدوء دون قطع العلاقات، منتظرا عودة إدارة أميركية أكثر براغماتية.
وفي مخطط بيكر الثاني (2003)، الذي أعاد فتح الطريق أمام إجراء استفتاء على تقرير المصير (الاستقلال)، جاء الرفض المغربي قاطعا. مرة أخرى، رفضت الرباط الوقوع في فخ استعجال الزمن، وواجهت الضغوط معولة على السقوط الطبيعي لخطة غير قابلة للتطبيق.
أما في عام 2013، فطرحت واشنطن مقترحا لتوسيع مهمة المينورسو لتشمل مراقبة حقوق الإنسان، وهو ما شكل إنذارا استراتيجيا خطيرا. في تلك السنة، امتزج صبر المغرب بقدر كبير من الحزم، إذ أطلق حملة دبلوماسية مكثفة، وعزز آلياته الوطنية لحقوق الإنسان، فتمكن من تفكيك التهديد دون الإضرار بعلاقته مع الولايات المتحدة.
ثم جاء جون بولتون (2018–2019)، الذي حمل هاجس الاستفتاء على الصحراء إلى حد الهوس. لم يدخر جهدا لمحاولة إضعاف الموقف المغربي، وهو المعروف بتلميذه لجيمس بيكر وبصداقته لدايفيد كين، رئيس مكتب اللوبي « Keene Consulting »، الذي وقعت الجزائر معه عقدا عام 2018.
وأشار المصدر ذاته، إلى أنه خلال الأشهر السبعة عشر التي قضاها بولتون في مجلس الأمن القومي، واجه المغرب محاولاته بحكمة وهدوء من جهة، وبصلابة من جهة ثانية، ما أحبط أي محاولة لاستغلال اللحظة لتمرير الأطروحات المعادية.
تعزيز شرعية المملكة على المناطق الجنوبية
في قراءة لنهج الرباط تجاه أقاليمها الجنوبية، يوضح باسو أن تطوير هذه المناطق بات واحدا من الركائز الجوهرية في استراتيجية « كرونوس ». فمنذ مطلع الألفية، وبشكل أوضح خلال عهد الملك محمد السادس، ضخ المغرب استثمارات كبرى غيرت تدريجيا صورة الجنوب: من منطقة طغى عليها الطابع النزاعي، إلى فضاء واعد يستقطب مشاريع استراتيجية كبرى.
هذا المسار التنموي، بحسب باسو، أنتج أثرا تراكميا عزز شرعية المملكة على الأرض. فالمغرب لم ينتظر إشهاد المجتمع الدولي أو مباركته، بل جعل من عامل الزمن عنصرا لترسيخ سيادته.
واستحضر في هذا السياق مقولة لوسيان بوارييه: « الزمن ليس عدو الاستراتيجية بل مادتها الأولية ».
بناء شبكة واسعة من الحلفاء
قال باسو إن ملامح « كرونوس المغربي » تتجلى أيضا في النهج الدبلوماسي التراكمي الذي اعتمدته المملكة خلال العقدين الماضيين، حيث عملت الرباط على بناء شبكة واسعة من الحلفاء في إفريقيا والعالم العربي والفضاء الغربي.
إفريقيا، يذكر باسو بأن عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي عام 2017 مثلت منعطفا حاسما، إذ أتاحت له إعادة التموقع داخل القارة وتقليص أثر الخطاب المناوئ.
وعربيا، ساهمت العلاقات الوثيقة مع الدول الخليجية في ضمان دعم ثابت ومتواصل للموقف المغربي.
أما غربيا، فقد شكلت الاعترافات الأميركية ثم الإسبانية، إلى جانب التحولات في الموقفين الفرنسي والألماني عام 2023 ولاحقا البريطاني، ركائز أساسية لتعزيز توافق دولي متنام لصالح الطرح المغربي.
هذا المسار، بحسب باسو، يسير وفق وتيرة هادئة وواثقة، تعكس دبلوماسية تراهن على تراكم الزمن: كل خطوة تمهد لأخرى، وكل نجاح يخلق إمكانية لنجاح جديد، في تكريس لمنطق النضج الذي يوجه الفعل الدبلوماسي للمملكة.
وختم الخبير الأمني المغربي عبد الحق باسو، بالقول إن المغرب نجح أخيرا في قلب المعادلة الزمنية داخل هذا الصراع، معتبرا أنه لطالما اعتقد خصومه أن الزمن يعمل ضده، وأن كل سنة تمر بلا حل تضعف موقفه. غير أن ما حدث بحسب باسو كان عكس ذلك تماما، إذ عزز الزمن الوقائع على الأرض، ورسخ الشرعية، ووسع دائرة الاعتراف الدولي. وهكذا حولت الاستراتيجية المغربية الزمن من عامل إضعاف إلى رصيد استراتيجي يستثمر لصالحها.




