يُشكل صيف 2025 منعطفا حادا في مسار العلاقات الفرنسية الجزائرية، ولا يبدو أن الأمر سيتوقف هنا. ففي ظل توتر متواصل على خلفية اعتراف باريس بسيادة المغرب على صحرائه، وابتزاز الجزائر بورقة الهجرة، ورفضها التعاون بشأن ترحيل رعاياها الخاضعين لأوامر الإبعاد (OQTF)، أطلقت فرنسا حزمة جديدة من الإجراءات ضد النخبة الحاكمة الجزائرية.
في 6 غشت، وفي رسالة إلى رئيس الوزراء نُشرت في صحيفة لو فيغارو، أعلن ماكرون عن أول حزمة من القرارات، أبرزها تعليق العمل باتفاق 2013 الخاص بالإعفاء من التأشيرة لحاملي الجوازات الرسمية والدبلوماسية، وتفعيل آلية « التأشيرة–إعادة القبول » (LVR) التي تتيح رفض منح تأشيرات الإقامة القصيرة لحاملي الجوازات الخدمية والدبلوماسية، بل وتمديد الإجراء ليشمل تأشيرات الإقامة الطويلة لجميع أنواع المتقدمين. كما دعا ماكرون إلى تعاون دول فضاء شنغن لتفادي التحايل على هذه القرارات، خصوصًا عبر إيطاليا.
إقرأ أيضا : التصعيد الجزائري - الفرنسي.. قرارات انفعالية تعمّق القطيعة وتضرب الأعراف الدبلوماسية
في الوقت نفسه، كشفت جريدة لوموند الفرنسية أن صلاح الدين سلوم، السكرتير الأول السابق لسفارة الجزائر بباريس وضابط سابق في المخابرات الخارجية (DGDSE)، مطلوب بموجب مذكرة توقيف دولية بتهم الاختطاف والاحتجاز والانتماء إلى جماعة أشرار الإجرامية، في قضية الناشط الإلكتروني « أمير DZ ».
مذكرات توقيف ولائحة سوداء تضم ألف اسم
بحسب الصحفي محمد سيفاوي، القريب من دوائر صنع القرار في فرنسا، سيتم قريبا إصدار مذكرة توقيف ثانية ضد محمد بوعزيز، عقيد في المخابرات الخارجية يعمل بغطاء قنصل مساعد في كريتاي، والمتورط في نفس القضية. كلاهما مطلوب الآن عبر «النشرة الحمراء» للإنتربول، في سابقة اعتبرها سيفاوي «فضيحة حقيقية للنظام الجزائري».
إلى جانب ذلك، وبحسب المصدر ذاته، أعدت باريس لائحة «غير نهائية» تضم نحو ألف مسؤول جزائري أصبحوا غير مرغوب فيهم على أراضيها، وستمتد العقوبة بعد ثلاثة أسابيع إلى كامل أوروبا، مع إلغاء أي تأشيرات سارية. تشمل القائمة تقريبًا جميع أعضاء الحكومة ورئيس الوزراء، باستثناء وزير الخارجية أحمد عطاف، وأمينه العام لوناس مغرمان، وكاتب الدولة المكلف بالجالية الجزائرية في الخارج صوفيا شعيب، وموظفين رفيعيْن آخرين من الوزارة نفسها، نظرا لانخراطهم في قنوات الحوار القليلة الباقية.
في الرئاسة، شمل الحظر كل المستشارين دون استثناء، ومنهم بوعلام بوعلام، مدير ديوان الرئيس تبون، المعروف سابقًا برحلاته السريعة بين باريس والجزائر، والذي تصفه مصادر فرنسية بأنه «رجل أعمال يضع مصالحه الخاصة فوق مصلحة بلاده»، يقول دبلوماسي فرنسي للصحافي المذكور.
إقرأ أيضا : إجراءات ماكرون الجديدة ضد الجزائر: النظام الجزائري المصدوم يرد ببيان ممل وإنشائي وأجوف
العقوبات طالت أيضًا جميع النواب وأعضاء مجلس الأمة، والولاة، وجزءا من الجهاز القضائي من قضاة ووكلاء نيابة، إضافة إلى كبار الموظفين. فقط العسكريون المنخرطون في التعاون الأمني مع فرنسا استُثنوا مؤقتًا لأسباب عملية وليس تساهلا سياسيا.
باريس تُغلق أيضا أبواب الالتفاف على القرار
رغم حديث المقربين من تبون عن دخول «من الباب الخلفي» عبر دول ثالثة، مثل إيطاليا، فإن باريس أغلقت هذه الثغرات باستخدام المادة 22 من قانون التأشيرات الأوروبي، التي تلزم أي دولة عضو بالتشاور مع فرنسا قبل منح تأشيرة قصيرة لأي جزائري مستهدف بالعقوبات.
كما سحبت فرنسا بطاقات الدخول إلى المنطقة الخاصة في مطاراتها من موظفي السفارة الجزائرية المسؤولين عن «الحقيبة الدبلوماسية»، بعد توثيق استغلالها في تهريب الأموال والسلع للسوق الموازية. وردت الجزائر بالمثل. وخلافا لما تروجه البروباغندا الجزائرية فإن فرنسا لم تمنع نقل واستلام الحقائب الدبلوماسية، لكن باريس أوضحت أن المشكلة ليست في الحقيبة نفسها، بل في التجاوزات التي كانت تُغطّيها.
يجدر التذكير أن عمليات الدخول والخروج غير خاضعة لأي رقابة في المطارات الفرنسية، لم تكن بهدف معالجة شؤون الدولة، بل لتسيير… أمور شخصية بحتة. فقد وثّقت كاميرات المراقبة كل شيء: «دبلوماسيون» وعناصر يأتون لاستقبال أقارب النافذين في الجزائر، بلا أي صفة رسمية، عند نزولهم من الطائرة، ونقل عائلات كاملة بحقائب مثقلة، وتسليم مغلفات لقادة الطائرات أو طاقم الضيافة، وتمرير أكياس صغيرة مليئة بالهدايا أو سلع موجهة للسوق الموازية في الجزائر. وأحيانًا، كانت هناك طلبات شخصية لكبار المسؤولين، حريصين على إشباع «نزواتهم الصغيرة». وحتى الآن، كانت باريس تغض الطرف خشية إثارة حساسية الجزائر. وكان هناك مثل شائع في الجزائر يقول: «مطارا أورلي ورواسي كأنهما دار عمي موح». الآن… انتهى الأمر.
اتفاق الاتحاد الأوربي: فيتو فرنسي في الطريق
وعلى نحو جانبي، قامت باريس بتشديد جديد للإجراءات؛ إذ لن تستفيد عائلات الدبلوماسيين الجزائريين المنتهية مهامهم بعد الآن من «الضيافة الفرنسية». فإلى وقت قريب، كانت الأمور تجري بسلاسة: الزوجات والأبناء يحصلون بسهولة على بطاقة إقامة، ويستقرون في فرنسا، بينما يعود رب الأسرة – الذي استدعته الجزائر – في رحلات متكررة لزيارتهم. أما الآن، فقد انتهى ذلك. عند انتهاء المهمة، سيُطلب من الدبلوماسي الجزائري مغادرة فرنسا برفقة أسرته، مع أمتعته كاملة. الامتياز الذي انتهى عهده صُمم خصيصًا لـ «مافيا صغيرة» حاكمة تحب التطلّع نحو أوروبا، وهي في الوقت نفسه ترفع شعارات وطنية زائفة.
وعلى نحو أكثر جدية، وبينما يواصل بعض المسؤولين في الجزائر التوهم بإمكانية إقامة شراكة استراتيجية مع الاتحاد الأوروبي، تتحرك بروكسيل في الاتجاه المعاكس. فالمعروف أن المفوضية الأوروبية أطلقت إجراء للتحكيم ضد القيود التجارية والاستثمارية التي فرضتها الجزائر، لكن ما لا يقال كثيرا هو أنه في البرلمان الفرنسي يتم تداول عدة مقترحات لتجميد، أو حتى إعادة النظر في، اتفاق الشراكة بين الاتحاد الأوروبي والجزائر. والقرار بات محسومًا: مع بداية الموسم السياسي، ستعارض فرنسا رسميًا أي تعديل أو تطوير لهذا الاتفاق. خطوة توقف المسار تمامًا، وقد تكون لها تبعات ثقيلة على الاقتصاد الجزائري.
الخلاصة، أن الاستراتيجية الجزائرية القائمة على خليط من الخطاب القومي والحسابات السياسية الداخلية اصطدمت بفرنسا التي، لأول مرة منذ الاستقلال، كسرت منطق التواطؤ التاريخي. واليوم، باتت باريس – كما يلخص سيفاوي – «تؤطر ردها قانونيًا، وتوسّعه أوروبيًا، وتمنهجه إداريا»، لتضرب مباشرة مصالح النخبة الحاكمة وتمنعها من التمتع بامتيازات أوروبا.
نهاية مرحلة… وضربة قاسية للنظام
محاولات الجزائر التلويح بـ«الخيار الإيطالي» اصطدمت بالواقع، إذ إن روما تطبّق مبدأ التضامن في إطار اتفاقية «شنغن». والأهم من ذلك، وهو ما لا يصرّح به النظام الجزائري، هو أن موقف إيطاليا من قضية الصحراء يصب في صالح المغرب، حيث تدعم روما مقترح الحكم الذاتي.
أما الاتفاقيات التي يفاخر بها تبون، فقد تبيّن أنها غير متكافئة، إذ خرجت إيطاليا الرابح الأكبر من خلالها، بعدما عززت دورها كمحور رئيسي لإمداد أوروبا بالغاز، وبلا أي عناء. فـ«الرهان على نفوذ مزعوم لجورجيا ميلوني لإقناع دونالد ترامب، على أمل إعادة تموضع باريس، هو أقرب إلى حكاية أطفال منه إلى استراتيجية دبلوماسية. إنه تمرين في الجغرافيا السياسية… بمستوى روضة أطفال». وفي الوقت الذي ينشغل فيه بعض المسؤولين أمام الكاميرات، تتحرك الأدوات الحقيقية – من مذكرات توقيف، وتفعيل مواد قانونية، وإجراءات تحكيم، وسحب تصاريح – بصمت، وهي التي تصوغ الواقع بفعالية أكبر بكثير من المواقف الاستعراضية أو البيانات الغاضبة، كما يلخص محمد سيفاوي.
هذا الصراع يكرّس نهاية علاقة غير صحية، كانت تسمح للجزائر بانتقاد باريس علنا بينما تستفيد من سخائها. لكن نظام تبون وجد نفسه محاصرا بتجاوزاته وعجزه عن استشراف موقف باريس الحازم، الذي يتجه ليصبح موقفا أوروبيا عاما. والأهم أن هذا الصدام يكشف قصورا بنيويا في سلطة تهتم بالدعاية أكثر من النتائج. الإجراءات الفرنسية هذه المرة دقيقة، قانونية، أوروبية الطابع، وتستهدف بشكل مباشر رفاهية النخبة الحاكمة على الساحة الدولية. إنها إهانة موصوفة، ودليل على أن في عالم الدبلوماسية، الحركات المسرحية لا تعوّض غياب سياسة خارجية حقيقية. وكما يسخر سيفاوي: «ربما يجد عبد المجيد تبون ودائرته المقربة بعض الهدوء إذا استبدلوا باريس بسواحل تركيا، حيث لن يتردد الأصدقاء المحليون في توثيق رحلاتهم».




