الصراع بين مقاومي الداخل وعناصر جيش الحدود، واحتداد النقاش حول مسألة الهوية الجزائرية بين التيار العروبي والتيار البربري، ثم « حرب الرمال » التي كان الهدف منها تحويل انتباه الرأي العام الجزائري عن المشاكل الحقيقية، كل هذا يعني أن السنوات الثلاث الأولى من استقلال الجزائر كانت فوضوية. ولكن في خضم هذه الأحداث كلها تشكل « النظام الجزائري ».
جيش الحدود ضد الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية
في عام 1958، بعد إنشاء الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في تونس، احتد الصراعات بين ثلاث قوى:
1) بين « النواة الصلبة » لهذه الحكومة المؤلفة من كريم بلقاسم وعبد الحفيظ بوصوف ولخضر بن طوبال من جهة، والسجناء الخمسة المحتجزين بفرنسا منذ اختطاف طائرتهم يوم 22 أكتوبر 1956، وهم أحمد بن بلة وحسين آيت أحمد ومحمد بوضياف ومصطفى الأشرف ومحمد خيضر، من جهة أخرى.
2) بين الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وجيش الحدود (جيش التحرير الوطني) المرابط على الحدود بالمغرب وتونس.
3) بين جيش الحدود والناجين من مقاومي الداخل. كان جيش الحدود يعترف بهيئة الأركان العامة بقيادة العقيد بومدين، في حين كان الناجون من مقاومي الداخل يوالون الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.
وتمت عملية استيلاء أنصار جيش الحدود المتحدين في « مجموعة وجدة » على خمس مراحل:
1) بدأ أحمد بن بلة وهواري بومدين انقلابهما في ماي 1962 عندما فُرِضَ على الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية دعوة المجلس الوطني للثورة الجزائرية لعقد مؤتمره. وكان هدفهما هو تجاوز الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية من خلال إنشاء مكتب سياسي يسيطران عليه.
2) يوم 28 ماي، منذ بداية الاجتماع، كانت الأجواء متوترة للغاية بين بن يوسف بن خدة، رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، ونائبه بن بلة، وتبادلا الشتائم. ثم انفجرت القيادة الجماعية. وحول بن بلة، نجحت مجموعة ضغط في تبني النموذج الاشتراكي والحزب الواحد. وفي نهاية التصويت الذي كان يهدف إلى انتخاب أعضاء المكتب السياسي الذي سيتكلف بتدبير بداية الاستقلال، أصبح الوزراء الثلاثة للحكومة المؤقتة، كريم بلقاسم وعبد الحفيظ بوصوف ولخضر بن طوبال، أقلية.
وبعدها توجه بن بلة إلى القاهرة، ومن هناك إلى المغرب، حيث التحق بالعقيد بومدين وأحمد بومنجل والعقيد شعباني، هؤلاء الثلاثة اعتبروا أن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ليست لديها الشرعية لحكم الجزائر المستقلة.
إقرأ أيضا : المؤرخ برنارد لوغان يكتب: من هم «الصحراويون»؟
3) وقد حاول مقاتلو الداخل القيام بالوساطة. وفي 24 و25 يونيو، اجتمعت الولايات الثانية والثالثة والرابعة والمنطقة المستقلة للجزائر العاصمة وممثلو فيدرالية فرنسا لجبهة التحرير الوطني في برج زمورة بمنطقة القبائل. وأعلنوا عن إنشاء « لجنة مشتركة بين الولايات »، ثم أدانوا « تمرد » هيئة الأركان العامة، أي جيش الحدود.
4) في 30 يونيو، اجتمعت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وقامت بإقالة هيئة الأركان العامة. وردا على ذلك، في 2 يوليوز، طلب بن بلة وبومدين من قادة الولايات وضع أنفسهم تحت إمرة هيئة الأركان العامة وأمروا جيش الحدود بالاستعداد للتحرك نحو الجزائر.
5) في 11 يوليوز، منع زعماء الولاية الرابعة بن يوسف بن خدة، رئيس الجمهورية المؤقتة، من عقد اجتماع بالبليدة، فيما استقر بن بلة في تلمسان. وانضم إليه هناك يوم 16 يوليوز العقيد بومدين وفرحات عباس. هذا الأخير، الذي على الرغم من أنه من أنصار إنشاء سلطة مدنية، انضم إلى « جماعة تلمسان » ضد الجمهورية المؤقتة بقيادة بن يوسف بن خدة. هل كان الأمر يتعلق بالنسبة له بتصفية حساباته مع من أطاحوا به قبل أشهر قليلة، في 27 غشت 1961؟ وهل كان يأمل بتحالفه مع الأقوى أن يصبح أول رئيس للجمهورية الجزائرية؟ في كتابه « الاستقلال المصادر » الذي نشره عام 1984، برر اختياره بكونه أراد تجنيب الجزائر تجربة الكونغو، لأن الأوامر التي أصدرتها الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية للمقاتلين بعدم الانصياع لقادتهم، حسب قوله، تهدد بإغراق الجزائر في حرب أهلية.
انقلاب شتنبر 1962
وحتى قبل استقلال الجزائر، كان هناك تحالفان متصارعان، « جماعة الجزائر » و »جماعة تلمسان ». هذه الأخيرة، التي كانت تضم أحمد بن بلة، ومحمد بوضياف، وآيت أحمد، ومحمد سعيد، ورابح بيطاط، ومحمد خيضر، أي السجناء السابقين بفرنسا، بالإضافة إلى الحاج بن علة، شكلت مكتبا سياسيا أعلن أنه سيشرف على تدبير شؤون الجزائر. ومن هنا بدأ الانقلاب.
يوم 23 يوليوز، انفصل محمد بوضياف وآيت أحمد عن « جماعة تلمسان » التي اتهموها بالرغبة في إقامة دكتاتورية في الجزائر، واستقرا في منطقة القبائل، في تيزي وزو، حيث أطلقا نداء للجزائريين لمقاومة الانقلاب. ويوم 27 يوليوز، انضم إليهم كريم بلقاسم. وهكذا ظهرت مجموعة ثالثة هي « مجموعة تيزي وزو ».
يوم 25 يوليوز، استولى القائد العربي بن رجام من الولاية الثانية على قسنطينة وانضم إلى « مجموعة تلمسان ». ودارت معارك في المدينة، ثم سيطرت الولاية الرابعة يوم 29 يوليوز على الجزائر العاصمة وتم اعتقال قادتها. وفي 29 غشت، وقعت اشتباكات عنيفة في الجزائر العاصمة، ثم في 4 شتنبر، أمر بن بلة من وهران قواته بالتحرك نحو الجزائر العاصمة، مما أدى إلى قتال عنيف، لا سيما في بوخاري وسيدي عيسى والشلف. وفي 9 شتبر دخل بن بلة والعقيد بومدين الجزائر العاصمة على رأس جيش الحدود.
تم تحديد موعد انتخابات المجلس التأسيسي في 20 شتنبر 1962، على قوائم فردية، بعد أن أعلن بن بلة أن « الديمقراطية ترف ليست الجزائر بحاجة إليها بعد ».
وفي 25 شتنبر، انتخب فرحات عباس رئيسا للجمعية الوطنية وأعلن ميلاد الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، ثم تم تكليف بن بلة لتشكيل أول حكومة للجزائر المستقلة. تولى هواري بومدين وزارة الدفاع وأصبحت جبهة التحرير الوطني الحزب الوحيد في الجزائر.
وبالتالي تم طرد مقاتلي الداخل من قبل مقاتلي الخارج والسياسيين من قبل العسكريين. تم نسيان مخرجات المؤتمر « التأسيسي » للصومام.
ومن أجل مواجهة هذا الانقلاب، بعد مرور عام، في نهاية شتنبر 1963، اجتمع الأطر السابقون للولاية الثانية والرابعة، وكذلك القادة السياسيين في عين الحمام، على بعد حوالي خمسين كيلومترا شرق تيزي وزو، وقرروا حمل السلاح.
وفي الأيام التي تلت ذلك، أرسلت الحكومة الجيش ضد المتمردين، لكن الحرب الأهلية توقفت بسبب « حرب الرمال »، التي نجحت مؤقت في التوفيق بين المعسكرين في اتحاد مقدس.
في شهر يوليوز 1964، وأمام الانحراف الاستبدادي للسلطة وتوجهاتها الاقتصادية الكارثية، أنشأ آيت أحمد ومحمد بوضياف المجلس الوطني للدفاع عن الثورة وأعلنا التمرد خاصة في منطقة القبائل. وحاول العقيد شعباني، رئيس الولاية السادسة (الصحراء)، التحرك نحو الجزائر العاصمة، لكن تم اعتقاله وأعدم في 8 شتنبر. أما آيت أحمد فقد اعتقل يوم 17 أكتوبر 1964 وحكم عليه بالإعدام. وبعد العفو عنه، لجأ إلى سويسرا وظل هناك إلى عام 2001. لقد كان قمع النظام شرسا.
لقد انفجرت أسطورة الثورة الموحدة أمام الواقع العشائري، ومن رحم كل ذلك تشكل « النظام » الجزائري.