تتوالى ردود الفعل، خاصة الغربية، بشأن الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى المغرب. وآخر هذه الردود تمثلت في تحليل نُشر في المجلة الأمريكية الشهيرة والمؤثرة نيوزويك، بقلم غوردون جي. تشانغ، وهو مستشار قانوني ذو مكانة دولية، ومحاضر في أرقى الجامعات الأمريكية، وعضو سابق في مجلس إدارة جامعة كورنيل لفترتين، بالإضافة إلى كونه خبيرا بارزا في الشأن الصيني وأحد أبرز منتقدي سياسات بكين.
يملك تشانغ في رصيده عددا من المؤلفات المتخصصة، كان أحدثها كتابا بعنوان «الخطة الحمراء: مشروع الصين لتدمير أمريكا»، وهو عنوان لا يقتصر على إثارة الانتباه، بل يعكس برنامجا متكاملا في حد ذاته.
أن يكرّس مؤلف وصحفي وخبير بهذا الحجم تحليلا لما قد يبدو وكأنه مجرّد محطة عابرة، يعكس بوضوح الأهمية البالغة التي تنطوي عليها هذه الزيارة.
في 21 نونبر 2023، توقف شي جين بينغ في « عبور تقني » بمدينة الدار البيضاء أثناء عودته من جولة في أمريكا الجنوبية وحضوره قمة العشرين بالبرازيل. وأشار تشانغ إلى أن « الزعيم الصيني حظي باستقبال رسمي من ولي العهد الأمير مولاي الحسن ورئيس الحكومة ». وأضاف: « لماذا اختار شي المغرب لتوقفه القصير وغير المتوقع؟ ». السؤال أثار اهتمام الخبراء في الولايات المتحدة، أوروبا، وحتى في الجزائر، الحليف التقليدي لبكين في المنطقة.
المغرب... «هونغ كونغ الجديدة» للصين؟
هناك الجانب الظاهر، وهو الموقع الجيوستراتيجي للمغرب الذي يتوسط أوروبا وأمريكا الشمالية وإفريقيا. « المملكة توفر للصين، التي تعتمد بشكل كبير على التجارة، منفذا خلفيا نحو الأسواق الرئيسية »، وفقا لما ورد في التقرير. على المدى القصير، تتركز الطموحات الصينية على التجارة، مما يجعل المغرب وجهة استراتيجية للاستثمارات الصينية.
وأشار غوردون جي. تشانغ إلى أن « المغرب لديه اتفاقية تجارة حرة ثنائية مع الولايات المتحدة منذ عام 2006، وهي الاتفاقية الوحيدة من نوعها بين أمريكا ودولة إفريقية ». وجاء هذا التصريح استنادا إلى تصريحات قدمها توماس رايلي، السفير الأمريكي السابق في الرباط، خلال شهر دجنبر.
بالإضافة إلى ذلك، يرتبط المغرب باتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي، وهو أيضا عضو في منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية، التي تشمل « 54 دولة إفريقية »، باستثناء الكيان المزعوم المعروف باسم « البوليساريو ».
ووفقا لتحليل صادر عن جوناثان باس، وهو خبير يتابع الشؤون المغاربية عن كثب من موقعه في شركة Argent LNG، فإن « المغرب يوفر جسرا تجاريا تحتاجه شي جين بينغ أكثر من أي وقت مضى ». ويضيف التحليل: « من منظور بكين، المغرب بالنسبة للعالم هو ما كانت تمثله هونغ كونغ بالنسبة للصين في السابق: منفذ إلى سوق شاسع يصعب الوصول إليه بطرق أخرى ».
ويزداد هذا الاحتياج الصيني إلحاحا نظرا إلى أن القوى الغربية الكبرى لن تسمح، كما فعلت في العقدين الأولين من هذا القرن، بحدوث موجة ضخمة جديدة من الصادرات الصينية، وهو ما يُعرف باسم « صدمة الصين 2.0″، وهو المصطلح الذي تتداوله إدارة جو بايدن لوصف التدفق الكبير للصادرات الصينية إلى الأسواق العالمية.
هذه النظرة إلى المغرب كـ »بوابة استراتيجية » تعكس أهميته المتزايدة في سياق التنافس التجاري والجيوسياسي العالمي، خاصة في ظل محاولات الصين للعثور على مسارات بديلة للوصول إلى الأسواق الغربية والإفريقية، وسط تصاعد الحواجز التجارية والعقوبات المفروضة على صادراتها.
الاستثمارات الصينية في المغرب
لكن هناك أيضا طموحات كبرى للصين: التحكم في التدفقات التجارية والبحرية العالمية، والسيطرة على البحر الأبيض المتوسط. ويمر هذا المخطط عبر المغرب، الذي « يمكنه إغلاق الطرف الغربي للبحر الأبيض المتوسط ».
وتشير تحليلات إلى أن مبادرة « الحزام والطريق » التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ تشمل « بوضوح » هذا المخطط. ويقول المحلل: « إن مضيق جبل طارق، حيث يقع المغرب في نهايته الجنوبية، لا يزيد عرضه عن ثمانية أميال (14 كيلومترا). إدخال حكومة الرباط في فلك الصين هو بالتأكيد جزء من الأجندة طويلة الأمد لشي ».
وللاستفادة من الوضع التجاري الخاص للمغرب، تعمل الصين على بناء منشآت صناعية على الأراضي المغربية. ويوضح توماس رايلي أنه « في عام 2024 وحده، التزمت خمس شركات صينية منفصلة باستثمار أكثر من 4 مليارات دولار لبناء مصانع لإنتاج البطاريات ومكونات السيارات الكهربائية ». على سبيل المثال، تخطط شركة « غوشن هاي-تك » (Gotion High-tech) لبدء الإنتاج في الربع الثالث من عام 2026 في « جيجافاكتوري » (مصنع عملاق) بقيمة 1.3 مليار دولار في المغرب، وفقا لإعلان الشركة في يونيو. وستقوم المنشأة بإنتاج البطاريات والكاثودات والأنودات، وأوضحت الشركة أن معظم الإنتاج سيُخصص للتصدير.
وفي الشهر السابق، أعلن مصنعان صينيان آخران للبطاريات، هما « هايليانغ » (Hailiang) و« شينزوم » (Shinzoom)، عن خطط لفتح مصانع في هذا البلد الواقع في شمال إفريقيا. وفي مارس، وافق المغرب على خطط بناء مصنع لشركة « بي تي آر نيو ماتيريال غروب » (BTR New Material Group)، وهي شركة صينية أخرى متخصصة في تصنيع بطاريات السيارات الكهربائية.
ووفقا لما قاله السفير الأمريكي السابق، فإن « هذه مناورات واضحة لتجنب الرسوم الجمركية الأمريكية والأوروبية ».
عندما تلتقي الجغرافيا السياسية بالتجارة
غير أن المعركة بعيدة عن أن تكون حاسمة مسبقا. ففي الولايات المتحدة وأوروبا، تتبلور ردود الفعل بوضوح. فعلى سبيل المثال، أعلن الرئيس المنتخب دونالد ترامب عزمه فرض رسوم جمركية عامة لا تقل عن 60% على المنتجات الصينية، بالإضافة إلى ضريبة إضافية بنسبة 10% لمعاقبة الصين على بيعها لمادة الفنتانيل، وهي مخدر قوي يتسبب في أضرار جسيمة في الولايات المتحدة.
و »تسير أوروبا على النهج نفسه، بفرض قيود تجارية مماثلة، في الوقت الذي تراهن فيه الصين على ما يعرف بالجنوب العالمي كملاذ أخير »، وفقا لمسؤولين صينيين.
في المقابل، أولت الإدارة الأمريكية الأولى لترامب أولوية لعلاقاتها مع المغرب، حيث اعترفت بسيادة المغرب على الصحراء، واتفقت على فتح قنصلية هناك. ولم تخرج إدارة بايدن عن هذا النهج الجديد، غير أن ترامب، في حال فوزه بولاية ثانية، قد يستأنف من حيث توقف. وسيكون ذلك « ذا أهمية بالغة »، لأن الصين، حتى الآن، تحافظ على علاقتها مع الجزائر التي تُوصف بأنها « عدائية » و »مناهضة بشكل علني » للمغرب، ولم تتخذ بعد موقفًا واضحًا بشأن قضية الصحراء.
ومع ذلك، قد تتغير هذه المواقف، وقد تصبح مدينة الداخلة، إلى حد كبير، بؤرة للصراع التجاري المقبل بين الولايات المتحدة والصين. ففي الداخلة، يُشيّد المغرب ميناء على المحيط الأطلسي بتكلفة 1.2 مليار دولار، حيث يُتوقع أن « يصبح بوابة لأفريقيا الغربية، متجنبًا عدم الاستقرار المتزايد في المناطق المجاورة ». وهنا بالتحديد تلتقي الجغرافيا السياسية بالتجارة.
ففي حين يُعد المحيط الأطلسي خطا أحمر بالنسبة لواشنطن (إذ تشير كلمة « الأطلسي » في حلف « الناتو » إلى منظمة حلف شمال الأطلسي)، تعتمد الاستراتيجية الصينية دائمًا على استخدام الموانئ كوسيلة للوصول إلى أسواقها وربطها ببعضها. و »يمكن لأمريكا أن تفعل الشيء نفسه في الداخلة، إذ ستعارض واشنطن أي محاولة من بكين لإغلاق البحر الأبيض المتوسط أو الهيمنة على المناطق المجاورة للمحيط الأطلسي الجنوبي ».