في الوقت الذي تضعف فيه الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب الصادرات الإفريقية إلى الولايات المتحدة، تعمل تركيا على تعزيز نفوذها من خلال الاستثمار المباشر الأجنبي الاستراتيجي في مجالات الطاقة والصحة، مما يوفر بديلا لمنطق شرق-غرب.
فمنذ إطلاق استراتيجيتها تجاه إفريقيا في عام 1998، عملت تركيا بشكل منهجي على بناء علاقات اقتصادية ودبلوماسية مع القارة الأفريقية. وإذا كانت المبادلات التجارية، وخاصة صادرات الأسلحة، تجدب الاهتمام، فإن الاستثمار الأجنبي المباشر يعزز نفوذها في القارة.
ومع الإعلان عن 23 مشروعا في أصول جديدة في عام 2024، تطبق أنقرة مقاربة يجمع بين الربح الاقتصادي والتأثير الاجتماعي والتوقعات الجيوسياسية، كما ورد في مقال نشر مؤخرا من قبل « fDi Intelligence »، وهي منصة متخصصة تابعة لصحيفة فاينانشال تايمز، مقال خصص لتحليل الاستثمار الأجنبي المباشر. والاستثمار في أصول جديدة على أنه « شكل من أشكال الاستثمار الأجنبي المباشر، حيث تنشئ الشركة منشآت جديدة في بلد ثالث. يمكن أن تكون هذه المنشآت مصانع إنتاج، أو مكاتب، أو منافذ بيع، أو مراكز لوجستيكية ».
وإذا كان الاستثمار الأجنبي المباشر التركي يركز على عدد من القطاعات، فإنه لا ينبغي لنا أن نتجاهل أن تركيا تعمل أيضا على تعزيز وجودها العسكري في إفريقيا، من خلال صادرات الأسلحة (طائرات بيرقدار بدون طيار) واتفاقيات التعاون الأمني. إن تدخلاتها، وخاصة في ليبيا والصومال، تبرز استراتيجية مزدوجة: التنمية الاقتصادية من جهة، والعسكرة من جهة أخرى.
هذه الأفعال التي يعتبرها البعض تدخلا، قد تقوض مصداقية أنقرة كشريك « محايد ». وهكذا، بالنسبة للدول الإفريقية التي تعاني من عدم الاستقرار، فإن هذه المقاربة قد يخلق تبعية أمنية تتعارض مع المبادئ المعلنة للتعاون فيما بين بلدان الجنوب.
لنحلل الآن كيف تساهم هذه الاستثمارات الأجنبية المباشرة في تحقيق تأثير دائم، متجاوزة المنطق الاقتصادي البسيط.
الاستثمار الأجنبي المباشر كأدوات للاندماج في سلاسل القيمة العالمية
لا يقتصر الاستثمار الأجنبي المباشر التركي في إفريقيا على الحسابات المالية. وبحسب فاتح يوسيل (Fatih Yücel)، مستشار في مجال الأعمال وعضو مجلس الأعمال الماليزي-التركي، فإن « تركيا تعتبر الاستثمار الأجنبي المباشر كأداة استراتيجية لزيادة التفاعل مع الأطراف المعنية في سلاسل القيمة العالمية ». ويتم تجسيد هذه الرؤية من خلال مشاريع قطاعية محددة: مصانع النسيج في مصر، والمعدات الطبية في نيجيريا، أو محطات الطاقة الشمسية في زامبيا. وتسمح هذه الاستثمارات، التي تتم في كثير من الأحيان في قطاعات ذات تأثير اجتماعي واقتصادي قوي، لتركيا بفرض نفسها في النظم البيئية المحلية مع تلبية الاحتياجات البنيوية.
في عام 2024، ولأول مرة، ستتجاوز المشاريع التركية خارج أوروبا تلك الموجودة في القارة العجوز. إن هذا التوجه الجديد يعكس، وفقا لـ »fDi Intelligence »، رغبة في التنوع الجيوسياسي، وهو ما يعززه سياق دولي يتسم بالتوترات بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية وتخفيضات المساعدات الغربية. وأشار علي أحمدي، المدير في « ReshapeRisks »، إلى أن « الدول التي تسعى إلى حماية نفسها من تأثير الولايات المتحدة والصين تنظر إلى الاستثمارات التركية كوسيلة لتنويع المستثمرين لديها».
ويستهدف الاستثمار الأجنبي المباشر التركي في إفريقيا بالأساس قطاعات رئيسية تجمع بين الربح والمنفعة العامة، مثل المشاريع في مجال الطاقة (حدائق الطاقة الشمسية، ومحطة الطاقة الغازية العائمة كارباورشيب في موزمبيق) أو الصحة (المعدات الطبية) التي تستجيب « للاحتياجات الإنسانية العاجلة ». ومن شأن هذه الثنائية ــالبحث عن المردودية المالية والاجتماعيةــ أن تعزز شرعية أنقرة.
وتعتمد الشركات التركية أيضا على ميزة تنافسية: قاعدة تصنيع تنافسية وموقع جيواستراتيجي بين أوروبا وآسيا وإفريقيا. وتسمح هذه المزايا بتقديم حلول تتكيف مع الواقع المحلي، حلول تجمع بين المعايير الغربية المكلفة والنماذج الصينية، التي تتعرض للانتقاد في بعض الأحيان بسبب افتقارها إلى الشفافية.
القوة المتوسطة: استراتيجية فاعل براغماتي
وهكذا، تجسد تركيا قوة متوسطة مرنة، قادرة على استغلال الأزمات لتوسيع نفوذها. وتشير ناتاشا ليندشتات، الأستاذة بجامعة إسيكس، إلى أن أنقرة « تمكنت من استغلال الفرص التي خلقتها الصراعات في سوريا وأوكرانيا ». مرونة تترجم إلى دبلوماسية اقتصادية دون شروط أيديولوجية مسبقة. وخلافا للقوى الغربية، التي غالبا ما يكون تعاونها مصحوبا بـ« اشتراطات »، فإن تركيا تفضل البراغماتية المستوحاة من النموذج الصيني، فتتعاون مع أنظمة مختلفة، بغض النظر عن كونها ديمقراطية أم لا.
واقعية يصاحبها دعم دبلوماسي كبير. فبفضل شبكتها الثالثة من السفارات والقنصليات في العالم بعد الولايات المتحدة والصين، تعمل تركيا على تعزيز حضورها في إفريقيا. ويرى رايان نيلام (Ryan Neelam) من معهد لوي (Lowy Institue) أن هذا الأمر يعكس « طموحات أنقرة في فرض نفسها كقوة إقليمية وعالمية ». وتؤدي البعثات الدبلوماسية وظيفة اقتصادية أساسية: دعم الشركات التركية في انتشارها عبر العالم، من خلال تحليل الفرص والقوانين المحلية.
وفضلا عن الاستثمار الأجنبي المباشر، تعمل تركيا على نشر قوتها الناعمة. افتتح معهد يونس أمره، الذي يعمل على تعزيز اللغة والثقافة التركية، أول دورة لتعليم اللغة التركية في بوجومبورا في بوروندي، في عام 2024. وهي الخامسة عشرة في القارة الإفريقية. وتعمل هذه المبادرات الثقافية، إلى جانب مشاريع البنية التحتية، على خلق روابط وثيقة دائمة.
وتتزامن هذه المقاربة التركية مع التراجع النسبي للقوى الاستعمارية السابقة. ومن خلال التركيز على القطاعات المهمة (الطاقة والصحة) ودمج الأبعاد الثقافية، تنخرط أنقرة في منطق « شراكة رابح-رابح »، التي ينظر إليها على أنها أقل أبوية من بعض أشكال التعاون التقليدية.
العقبات
ورغم هذه التطورات، فإن استراتيجية تركيا في إفريقيا ليست خالية من العقبات. وتؤدي التوترات مع الغرب، والتي تفاقمت بسبب « سلطوية رجب طيب أردوغان »، إلى تعقيد تموقعها. ينضاف إلى ذلك حقيقة مفادها أن انعدام آفاق الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والخلافات داخل حلف شمال الأطلسي قد تؤثر، في الأمد البعيد، على مصداقية أنقرة باعتبارها شريكا « محايدا ».
وفضلا عن ذلك، تشكل المنافسة مع القوى المتوسطة الأخرى (الهند والإمارات العربية المتحدة) والحاجة إلى الحفاظ على مردودية اقتصادية مرضية في أسواق غير مستقرة في بعض الأحيان تحديات دائمة.
ويمكننا القول في الختام إن الاستثمار المباشر الأجنبي التركي في إفريقيا يعكس استراتيجية نفوذ متطورة، تجمع بين القوة الصلبة والقوة الناعمة. ومن خلال الاستفادة من القطاعات الرئيسية والبراغماتية الدبلوماسية والأبعاد الثقافية، تعمل أنقرة على ترسيخ مكانتها كلاعب رئيسي، وتقدم بديلا لمنطق الثنائية شرق-غرب. ولكن استدامة هذا النفوذ سوف تعتمد على قدرتها على التوفيق بين الطموح والربح الاقتصادي والاستقرار السياسي الداخلي. في عالم متعدد الأقطاب ومتغير، تثبت تركيا أن القوى المتوسطة قادرة على إعادة تحديد قواعد اللعبة الاقتصادية والدبلوماسية.
مرحبا بكم في فضاء التعليق
نريد مساحة للنقاش والتبادل والحوار. من أجل تحسين جودة التبادلات بموجب مقالاتنا، بالإضافة إلى تجربة مساهمتك، ندعوك لمراجعة قواعد الاستخدام الخاصة بنا.
اقرأ ميثاقنا