تدهور الثقافة وانحطاطها يبدأ في اللحظة التي لا ينظر فيها المثقف المُنتج للأفكار والعلامات تجاه الواقع الفيزيقي الذي ينتمي إليه. وذلك من أجل إنتاج فكر يليق بهذا الواقع وتحوّلاته. ينظر الأديب اليوم إلى البهرجة التي تحظى بها الرواية داخل مؤسسات عربية فيُصبح كلّ نتاجاه الثقافي مُتعلّقاً بالرواية ومُتخيّلها، مع العلم أنّ « شاعرٌ » ومن حقّ الشاعر أنْ يكتب رواية بحكم أنّ هذه الأخيرة توفّر مساحة كبيرة مقارنة بنظام القصيدة الصارم. لكنْ أنْ يتخلّى الشاعر عن كتابة الشعر فيُصبح كلّ نتاجه الأدبي متعلّقاً بالرواية لأنّها تحظى بشكل أكبر باهتمام مؤسساتي فهذا ما لا يقبله العقل والمهنية.
في حين هناك شعراء كتبوا الرواية لكنّهم ظلوا يحرصون في مؤلفاتهم على خلق نوع من الموازنة بين الرواية والشعر والنقد. وهؤلاء كتبوا رواية عميقة وأصيلة من ناحية الشكل والموضوع. فكلّما قرأت لمحمد الأشعري أو عبد الله زريقة تجد أنّ تجاربهم عبارة عن امتداد حقيقي لتجاربهم الشعرية لدرجةٍ يبدون فيها وكأنّهم الشعر داخل قوالب روائية. قراءة هذا النموذج من الأدباء الذين يتنقلون بين الشعر والرواية والنقد أنّهم يمتلكون وعياً دقيقاً بتنوّع الأجناس الشعرية وقوّتها في خلق مساحات كبيرة بالنسبة للكتاب.
يعتبر جيل السبعينيات علامة فارقة في المشهد الثقافي المغربي، لا لأنّه جيلٌ مؤسّس استطاع أنْ ينقل الثقافة المغربية إلى مناخات أخرى، وإنّما لكون جهل ثقافتنا الوطنية في مختبر الحداثة الفكريّة. حداثة ظلّت معطّلة خلال الستينيات، لكنّه مع السبعينيات بدأت ملامحها تتوطّد داخل مجالات ذات صلة بالأدب والفنون. لذلك فإنّ أغلب أساء هذا الجيل ممّن زاوجت في مشروعها الأدبي بين الشعر والرواية كتبت مجموعة من الأعمال الروائية القوية، لأنّ فعل الرغبة في الكتابة لم يكُن تجريبياً ولم تدفعه أي هواجس مادية، وإنّما تُحرّكه نوازع فكرية تتمثل في القدرة الكبيرة التي يمنحها السرد الروائي مقارنة بالشعر. وكلّما قرأنا هذه الأعمال الروائية وجدنا أنّها في طيّاتها قضايا وإشكالات ومواقف تكو في الغالب ذات صلة بالتاريخ والذاكرة والواقع.
وعي الروائي بالواقع الذي ينتمي إليه عاملٌ أساسي في نجاح الرواية. مع العلم أنّ الروايات الكثيرة الصادرة في السنوات الأخيرة لا تستحقّ القراءة، لأنّ كتابتها تُحرّكها دوافع أخرى غير الكتابة والتخييل والحلم. بقدر ما تلعب هذه المؤسسات الثقافية دوراً كبيراً في تشجيع الأدب المعاصر، تُمارس بطريقة لا واعية سُلطة كبيرة على واقع الثقافة وهي تُبدّل أحوالها وشؤونها وتحكم عليها بنوع من الانتقائية المُميتة، بحكم أنّها تُعلي من جنس أدبي على حساب آخر، كما تُساهم بطريقة أخرى على حسن نيتها في تغريب تجارب وتفريخ أخرى لم نسمع بها من قبل، سواء في الشعر ولا الرواية ولا القصّة ولا في أيّ مجال فني آخر.