يوماً بعد يوم، يزداد المشهد المسرحي بؤساً وتصدّعاً. ذلك إنّ الصراع الذي يُرافق الدعم المسرحي كلّ سنة، يجعلنا لا ننتبه إلى ماهية الأعمال المسرحية وقوّتها وجماليّاتها وإلى أيّ حدّ استطاعت خلق جديدٍ يُعوّل عليه فنياً، أمام الإبدالات المفاهيمية والتحوّلات الجماليّة التي يشهدها المسرح المعاصر في العالم ككل. والحق أنّ المسرح المغربي، رغم ما قد يبدو عليه من حداثة وتجديد، فيما يتّصل بالموضوعات والأساليب والقوالب، فإنّه ما يزال غير قادرٍ على اجتراح أفق حداثي، كما هو الأمر في التجربة التونسية على سبيل المثال لا الحصر. إنّ الساحة الفنّية لم تفهم أنّ النموذج المسرحي الجديد، لم يستوعب بعد السياق الفكري الذي ينتمي إليه. بل إنّه لم يخرج بعد من أفكار وأساليب ومشاغل المسرح الحديث. فتفكير الصالونات المسرحية، ما يزال مُسيطراً عليه بطريقة يُصبح معه العمل المسرحي عبارة عن كرنفال للتهريج والضحك، بدل أنْ يكون النصّ المسرحي عملية فكريّة تعمل على إدانة التاريخ وتشريح الذاكرة وتخييل الواقع ومسرحة الشخصيات.
أميل إلى الاعتقاد، بأنّ عسر الفهم بين مفهومي « الحديث » و« المعاصر » في التجربة المسرحية لا يُكرّس إلاّ الاجترار الفنّي. فنادراً ما تُشاهد عملاً مسرحياً يتوفّر على خصائص ومميّزات المسرح المعاصر، باعتباره قالباً مسرحياً هجيناً من الأشكال الفنّية والجماليّة المُتواشجة فيما بينها. لكون المسرح المعاصر عبارة عن مختبر لتجريب الأفكار والرؤى والاستيهامات وتحويلها إلى مشاهد قريبة من الناس ومشاغلهم. بل إنّ مُشاهدة بعض النماذج الغربيّة تُقدّم لك انطباعاً في كون المسرح المعاصر، هو بمثابة مختبر للجسد، فهذا الأخير، يحتلّ قيمة مميّزة فيه، لكنّه لا يحضر بمفهومه المادي، بل كوسيلة تُدين الواقع وتُعريّ مآزقه وأعطابه. في حين، يحضر الجسد في مسرحيات أخرى، بوصفه تاريخاً يقرأ فيه المُتفرّج آلام الإنسان وجُرحه.
بهذه الطريقة تتحوّل كتابة النصّ المسرحيّ إلى عملية فكريّة، بقدر تهجس بالتخييل، يظلّ الواقع سنداً واقعياً لها. فأغلب ما يُكتب ويُعرض اليوم له علاقة بالمسرح الحديث، موضوعاً ونسقاً وتخييلاً وأداءً. فلا غرابة أنّ المسرح يعاني نوعاً من التهميش والحيف، مقارنة بالسينما التي بدأت في الآونة الأخيرة، تخلق لها جمهورها داخل المنصّات والمهرجانات والصالات السينمائية. لم يعُد المُشاهد يجد في العمل المسرحي المغربيّ أيّ علاقة بالواقع الذي ينتمي إليه، مادامت النصوص تُكرّس نوعاً من الفُرجة الماضويّة التي يمتعض الناس منها. وإذا أردنا معرفة صدق وجودة أداء الفرق الوطنية التي ظلّلت سيرة المسرح المغربي، فلنتأمّل مدى تأثير هذه الفرق على المسرح المعاصر. فهذه الفرق لا أثر لها اليوم، بل إنّها ما تزال تكتب مسرحاً تاريخياً له علاقة بسياق لم يعُد المغاربة يعثرون على ملامح داخل واقهم المنكوب. ثمّة تجارب تسعينية قليلة حافظت على استمرارها الفنّي وتركت جُرحاً غائراً لم يندمل بعد، بحكم ما قدّمته من نصوص مسرحية تجريبية تتفاعل مع السياقات والمفاهيم والظواهر والأساليب والقوالب التي تظهر هنا وهناك.