هذا ويُعتبر بوخليط أحد أبرز الباحثين تخصّصاً في فكر باشلار الأدبي، بل إنّ للرجل إسهامات غزيرة فاقت 30 مؤلفاً استطاع فيها سعيد بوخليط أنْ يُكرّس اسمه كواحدٍ من الأقلام البحثية التي ظلت على مدار سنوات تُعرّف بفكر غاستون باشلار لكنْ من الجانب الأدبي وليس الإبستيمولوجي الذي عُرف به الفيلسوف داخل البحث العلمي المغربي. كما حرص بوخليط على التفكير في مشاغل باشلار الأدبيّة، جعله اسمهاً هاماً في هذا الشأن، إذْ يستحيل العثور على باحث يُضاهي بوخليط من حيث الاهتمام بباشلار في علاقته بالنظرية الأدبية وقضاياها.
وفي البيان الذي خصّه صاحب «شعرية غاستون باشلار وقضايا الترجمة» لـle360، يقول: «هكذا، اشتغلت الذاكرة بسخاء واستفاضة وعطاء، بهدف صياغة البناء الهيكلي الناظم لهذه السرديات التي وضَّب خيوطها المفصلية على امتداد سنوات غير متباعدة، لكن مادتها ومضمونها وترسباتها الحكائية مترسِّخة أكثر بين طيات زمن بعيد يمتد إلى السنوات المبكرة من طفولته، كي تستحضر ثانية مجموعة وقائع حياتية خَبِرها الراوي وشَكَّلت منذئذ أبعاد وعيه مثلما وجهت مساره الشخصي والفكري».
وتحرص هذه النصوص على استعادة البدايات بنبرة حنين واضحة، يتداخل بين طياتها الذاتي والموضوعي، الوصفي والخيالي، الجلي والرؤيوي، الصريح والضمني. جملة اعترافات تبوح بشفافية عبر استبطان الذات، تهمس، تعترف، تبوح، تبكي، تفرح، تضجر، تتأفَّف، تصرخ، تصمت، تساجل، تتذكر، تتأمل، تتطلع. كما، تعبر ضمنيا خلال الوقت ذاته، عن عملية ترميم لهذه الذاكرة بتكثيف عمليتي البوح والتذكُّر.
وحسب الكتاب سعيد بوخليط، فإنّ الذاكرة «تنتفض جماليا كي تنفض الغبار عن جلدها كي تستعيد مشارب بوتقة سياقات زمن ذاتي يتداخل طبعا بمقتضيات الموضوعي، فتوطدت بالتأكيد المعالم المفصلية لبناء شخصية الكاتب واستدراجه نحو مجرى أفق معين دون غيره».
وفي نظر صاحب «غاستون باشلار: نحو نظرية في الأدب» فإنّ بعض «تأويلات المطَّلعين تؤكد على أنّ الكتابات السير-ذاتية، بأنَّ كل راوٍ لنصوص من هذا النوع، يتوخى أساسا التوثيق بذاكرته ليس لمعطيات حياة عاشها فعلا، بل هي حيثيات حياة أخرى يتطلع كي يعيشها حقا».
يقول بوخليط في إحدى أولى مقاطع هذه المحكيات: «ولجتُ الغرفة، كان أبي مسجَّى تحيط به أمي وجدتي وخالي محمد. عيناه مفتوحتان، بالكاد، وقد تسمر نظره نحو السقف. الفم مفتوح مع غرغرة حشرجة .لاحظتُ جدتي تسكب قطرة عسل، لتليين فصل الروح عن الجسد مثلما فهمت بعد ذلك.الوقت زوالا، هكذا استمر الصراع من أجل البقاء، أربع ساعات تقريبا، لأني أذكر صبيحة ذلك اليوم وأنا أهمُّ للمغادرة نحو المدرسة، لاحظت بذكائي الطفولي أن أبي يلحُّ علي بملاحقة متكتِّمة، لم أعهدها من قبل، كأنه أراد اصطحابي أو إخباري بشيء ما، لكن لسانه لم يسعفه».
ويتابع: «صار حقيقة تلفظه شحيحا، يعبر أكثر بسيمياء وجهه، لاسيما حاجبيه وتقوسها الحاد حين الغضب. نظرة مختلفة تماما، تضمر مغزى معين، لم أستوعبه إلا بعد سنوات، وشرعت ذاكرتي بين الفينة والثانية، تجذبني من أذني قصد استعادة الوقائع، لكن مثلما أريدها أنا. في الليلة الأخيرة قبل صباح الرحيل، هيأت أمي للعشاء طبق أرز بالحليب و الزبدة والعسل، أمدته بصحن فلم يأبه، ثم عاودت الكرَّة بملعقة ممتلئة وضعتها في فمه، لكنه أزاحها جانبا ممتعضا.شرع يهذي بكلام، غير مفهوم لم نفرز منه سوى كلمة واحدة : سنسافر».