ثقافة الحداثة التي بدأ يعرفها المغرب ابتداءً من السبعينيات، لم يصنعها السياسيون، وإنّما الشعراء والسينمائيين والتشكيليين والمسرحيين وغيرهم. لقد تعلّمت الأجيال الجديدة مبادئ التفكير في الحداثة على مُستوى الكتابة والانتماء، من خلال المجلات الثقافية ذات البُعد التقدمي والتي غزت الثقافة المغربيّة من خلال ما كان ينشره مفكرين وأدباء مثل عبد الله العروي وعبد الكبير الخطيبي ومحمّد برادة وعبد اللطيف اللعبي ومحمّد بنيس وعبد الله زريقة ومصطفى النيسابوري وغيرهم من المفكّرين والأدباء والفنانين الذين ساهموا بمؤلفاتهم ودراساتهم في تكريس ثقافة الحداثة. بل كانت هذه الأسماء بمثابة الشرارة الأولى التي أيقظت في الثقافة المغربية الغارقة في التقليد آنذاك هسيس الحداثة، ودفعها إلى تجديد نفسها من خلال قضايا جديدة وإشكالات لم تُطرق من قبل. فلا غرابة أنْ تُطالعنا دراسة محمّد بنيس حول الشعر المغربي، باعتبارها دراسة أصيلة تستخدم مناهج حديثة في مقاربة الشعر المغربي، في وقتٍ لم يكُن الأجانب يعرفون شيئاً عن الشعر المغربي. لكنْ مع توالي صدور دراسات نقدية حول هذا الشعر، جعل هذا المنزع الأدبي يحظى بأهمية كبيرة منذ نهاية الثمانينيات.
لقد استطاع جيل السبعينيات رسم ملامح الحداثة داخل الثقافة المغربية، لا من خلال ما كانوا يكتبونه من مؤلفات فقط، بل أيضاً من الانتماء تفكيراً وجسداً إلى روح اليسار، بكلّ ما يقترحه من مفاهيم تحديثية مغايرة للتيار التقليدي الذي كانت تتبنّاه الحركات الإسلامية. فقد لعب اليسار أهمية بالغة في تكريس ثقافة الحداثة، ولا يستطيع أحد أنْ ينزع هذا السحر الذي مارسه اليسار وكُتّابه على الثقافة المغربية بشكلٍ عام. لكنّ هذا التعاقد الرمزي بين الإيديولوجيا والثقافة، كان له قيمة كبيرة على التداول الثقافي، ما جعل القطاع الثقافي ينخرط فيه سياسيون ومثقفون ومحامون، على خلفية أنّ الثقافة كان يُنظر لها على أساس مختبر مجتمعي ينبغي على الكلّ المُساهمة فيه. فالحداثة ليس مفهوماً نتشدّق به، بل هي نمطٌ مغاير في التفكير.