نادراً ما نعثر اليوم في حمأة التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية على لوحات وأفلام وأغاني تدين الواقع. فالنقد مطلوبٌ في العمل الفني وذلك لكون هذا الأخير ليس مجرّد وسيلة تعبيرية نُرفّه بها على الذات في لحظات الألم والتشظي التي تطبعنا تجاه الواقع، بقدر ما يُمثّل الفنّ اليوم أداة قوية لتفكيك الواقع ونقد الأفكار. أيْ أنّ العمل الفني قادر على أنْ يُضمر في ذاته مجموعة أفكار ورؤى وأحلام ومواقف، لكنْ بطريقةٍ فنّية لا تجعل موقف الفنان أو المخرج يبرز على سطح العمل الفني. هنا يمتلك الفنّ الملتزم في لغته الأصيلة في نقده للمواقف السياسية والظواهر الاجتماعية ويُحوّل إنتاجه لخدمة الإنسانية والوقوف جنباً إلى جنب مع القضايا الإنسانية الكبيرة.
والحقيقة أننا منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، لم نعُد نشهد هذا الزخم من الأعمال الفنية التي تنتقد الواقع وتُحوّله إلى مختبر تجريبي لمناقشة قضايا وإشكالات ظلّت لا مفكّر فيها داخل المجتمع. لقد آمن الجيل الأوّل بقوّة الفنّ والعمل الأدبي في تغيير الواقع، رغم أنّ ذلك بدا طوباوياً أحياناً في علاقة الأدباء والشعراء منهم على الخصوص تجاه الواقع السياسي، مع أنّ لا شيء تغيّر فعلياً باستثناء بعض المكتسبات الصغيرة التي تقف في حدود ارتفاع منسوب حرية التعبير وازدياد الوعي بقيمة هذا النقد في تحقيق ديمقراطية سياسية حقيقية.
في تاريخ السينما المغربية نعثر على العديد من الأفلام تنتقد الواقع بشدّة كما هو الحال في أفلام نبيل عيوش ونور الدين الخماري وهشام العسري ومحمّد مفتكر وبعضٌ من أفلام حسن بنجلون الأولى. وجاءت هذه الأفلام في صورها مبنية على لغةٍ نقدية تقترب من الفكر، بحكم ما تضمّنته مَشاهدها من آراء سياسية ومواقف فكرية تنتقد بعضاً من قضايا وإشكالات ذات صلة بالمجتمع والسياسة على حدّ سواء.
إنّ أفلام العسري تبدو في مجملها وكأنّها إعادة لقراءة التاريخ السياسي المغربي في شقّه غير المكتوب المُرتبط حصراً بتأثير سنوات القمع على مخيلة الناس ووجدانهم. غير أنّ العسري حين يقرأ التاريخ سينمائياً فهو لا يستحضره حرفياً ولا يتمثّله كطباقٍ بصري داخل منجزه السينمائي، بقدر ما يُبقيه كخلفية إيديولوجية مؤثّرة في بنية العمل السينمائي. غير أنّ هذا الاستناد على التاريخ، يكون مُولّداً بشكلٍ تلقائي وبطريقةٍ لا واعية في بناء الصُوَر والمَشاهد وهي تتماهى مع بعضٍ من عناصر الحاضر. إنّنا هنا أمام صورة سينمائية أشبه ببلور متعدّد الأضلع، كل صورة تُضمر عشرات الحقائق التي تتبلور في الدقيقة الواحدة.
وعي الفنان والمخرج والموسيقي بأهمية الواقع الذي ينتمي إليه، عاملٌ أساسي في نجاح عملية الكتابة، إذْ يؤثّر هذا الوعي المُسبق لا على نجاح العمل الفني وإنّما أيضاً على أصالته وتفرّده ومدى قدرته على التجذّر داخل واقعه. كلّ الأعمال الكبيرة في السينما والأدب والتشكيل والموسيقى بدأت من المحلية ووصلت في وقتٍ لاحق إلى العالمية. لكنْ حين نقرأ أو نُشاهد أو نسمع هذه الأعمال نشعر أنّها تختزن نقدا ما، سواء في السياسة أو المجتمع، إذْ تبدو وكأنّها في ثورةٍ دائمة تبحث لها عن لغةٍ خاصّة لا تماري الواقع ولكنّها تتنطّع أنْ تثور عليه وتضع مكانه واقعاً حقيقياً وليس مزيفاً.