فقد أثارت قضية انسحاب عدد من الأساتذة الجامعيين وتفكيرهم في الحصول على التقاعد النسبي، جدلاً كبيراً وواسعاً في صفوف وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، ما دفع وزيرها عبد اللطيف الميراوي خلال الأسئلة الشفوية المُوجّهة إليه بمجلس المستشارين إلى ضرورة تشديد عملية البث في قبول طلبات التقاعد النسبي. ليس هذا الأمر بجديدٍ داخل المغرب، فالجامعة بدأت تنسحب من المشهد العلمي منذ نهاية الثمانينيات نتيجة التصدّع الذي أصاب هياكلها التعليمية ونخبها الثقافيّة، وبالتالي، تراجع دورها في تحديث المجتمع وتكوين الطلبة والدفع بهم صوب مقدمة المشهد الثقافي العربيّ، من أجل التعلم والتكوين وممارسة البحث العلمي بكل قوانينه وأخلاقياته.
ففي الوقت الذي راهنت فيه الجامعات الفرنسيّة والأمريكية على كليات الآداب والعلوم الإنسانية، باعتبارها فضاءات لتكوين الفرد وتربيته على عشق الفنّ والجمال والإبداع والابتكار، عملنا في المغرب على تحويل الجامعة إلى مختبرات لصناعة الفكر الإيديولوجي، بين قوى اليسار التقدمي وحركات الإسلام السياسي الذي ما يزال إلى حدود اليوم، يُعيق حركات النمو الاجتماعي والمسلسل الديمقراطي للبلد. فهذا الصراع الإيديولوجي وانتصار اليسار وتزايد شعبيته، قد ساهم في تحديث الذهنية المغربيّة، وجعلها أكثر انفتاحاً على ما شهده العالم من تحوّلات.
ورغم أنّ هذا التحديث الثقافي والعلمي خرج من رحم الجامعة، إلاّ أنّ هذه الأخيرة، لم تتأثّر بهذا الحراك الثقافي. فآليات التدريس متصدّعة في ميكانيزماتها ومناهجها وقنواتها المعرفية مازالت تقليدية ومكتباتها مجرّد أرشيفات، لا تُساير مفهوم المكتبة العصرية وضرورة تجديد خزانتها والبحث عن إمكانية توفير المؤلّفات الجديدة للطلبة والباحثين تُساعدهم على التفكير في فهم بعض قضايا وإشكالات الثقافة العربيّة في مجالات مُختلفة من المعرفة.
ورغم تزايد الإمكانات المادية واللوجيستيكية، فإنّ هذه الأعطاب تتزايد يوماً بعد يوم، تجعلنا نطرح سؤال الجامعة ونُخبها و"هروبهم الجماعي" صوب التقاعد النسبي. هل يأتي ذلك بعد عناء الاجتهاد والبحث العلمي وتأليف الكتب وتسيير الندوات وإلقاء المحاضرات وتكوين الأجيال الجديدة؟ قطعاً لا. لذلك فإنّ التقرير الدولي الأخير الذي صنّف الجامعات المغربيّة ضمن مراتب متدنية خير دليل على العطب الذي استبدّ بها، وما أضحت عليه اليوم من محاضرات، هي في مُجملها عبارة عن قراءات سطحية في كُتب أو بالأحرى عروض هزيلة يقوم بها الطلبة. وقد حصل ذلك، في وقتٍ أصبحت فيه الجامعة تعيش خارج الواقع، فالسنوات المقبلة ستشهد كليات الآداب في المغرب، مأزقاً حقيقياً حول مصير الشعب الأدبيّة داخل سوق الشغل، وما يفرضه الواقع من تحوّلات. خاصّة وأنّ قرارات الجهة الوصية على التعليم تأخذ مساراً آخر في عملية فهم هذا العطب.
ليس المُهمّ عدد السنوات التي يُدرّس فيها المرء داخل الجامعة، وإنّما ما يتركه من مؤلّفات وأبحاث وندوات ومحاضرات، بعدما تتشبّع بها الأجيال وتحفر مجراها عميقاً في ذاتها. إنّ مفهوم الأثر، هو ما نفتقر له داخل الجامعات وأغلب من يتقاعد لا يترك أثراً علمياً في حياته، فيكون عبوره العلمي سريعاً وغير مُؤثّر.
عبد الله العروي، عبد الكبير الخطيبي، بول باسكون، فاطمة المرنيسي، محمّد عابد الجابري، محمّد سبيلا. كل هذه الأسماء نعرفها اليوم، انطلاقاً ممّا راكمته من مشروع فكريّ داخل الجامعة وتشعّب ذلك بشكل أقوى فاخترق بسُلطته وأفكاره المُذهلة جسد الاجتماع المغربي. لذلك تُشكّل هذه المشاريع الفكريّة التي خرجت من رحم الجامعة أساساً نظرياً شُيّد عليه الفكر المغربي طيلة السنوات الماضية، بل ومازالت هذه الأفكار تحفر مجراها عميقاً في ذاكرة البحث العلمي اليوم وتُؤثّر بشكل كلّي على مسارات الأبحاث العلمية. ما يجعل الجامعة اليوم تعيش على ماضي أمجادها وتنسى التضحيات الجسيمة التي قدّمها هؤلاء المفكّرون وما عانوا منه خلال فترات تدريسهم وعيشهم وتفكيرهم في مآزق وتصدّعات الثقافة المغربيّة، بغية الخروج بسبل وميكانيزمات تحريرها.
لم يُفكّر هؤلاء المفكرين في التقاعد النسبي، لأنّ أحلامهم الفكريّة كانت تسبقهم وتجعلهم يُجدّدون أوراق اعتمادهم، حتّى يظلوا في عمق الجامعة ومُختبراتها العلمية من أجل الكتابة والتفكير. فكان البحث العلمي، يشكّل هاجساً كبيراً لديهم، لأنّ الأهمّ في نظرهم كان يتمثّل في إخراج المجتمع من براثن الجهل والانحطاط. وأيضاً للبحث داخل مجالات الفكر والإبداع عن خطاب فكريّ يُجدّد ملامح الشأن الثقافي، ويدفعه صوب حداثة ثقافيّة تُساير في مُنطلقاتها وتحوّلات الجامعات والمختبرات الغربيّة.