لكن ما حدث فعلاً على وسائل التواصل الاجتماعي طيلة الأسابيع الماضية، بعدما ذاع خبر زواج الفنّان برفيقة دربه غيثة العلاكي، أمرٌ لا يُصدّقه العقل. كيف يجوز الاهتمام بهذه التفاصيل الحياتية المُملّة، أمام ما يشهده الواقع من تحوّلات سياسيّة ومآزق اجتماعية وتصدّعات ثقافيّة؟ كيف نهتدي إلى حداثةٍ فكريّة داخل مُجتمعٍ ما يزال يقتات على أخبار النجوم، ويعمل جاهداً على معرفة تفاصيل عرسه ومكان إقامته وسيرة زوجته والأسباب التي جعلته يُفكّر في الزواج خارج المغرب وفي هذا الوقت بالضبط؟ أليس البؤس الذي نعيشه داخل ساحتنا الغنائية كافٍ ليُحوّل اهتمامنا، صوب أسئلةٍ وقضايا ثقافيّة كبرى ذات علاقة بهواجسنا وأجسادنا ونهضتنا ووعينا؟
ليس بوسعي الإجابة عن مثل هذه الأسئلة المُرّة المُرتبطة بحياة الآخر في علاقته بعالم الفنّ والغناء. لكنْ ما يجب الانتباه إليه، أنّ عوالم الترفيه والاستهلاك، باتت تكتسح الأخضر واليابس من الحياة الفنّية في المغرب، مع العلم أنّ هذه الريبرطوارات الغنائية سيمحيها التاريخ ولن تحتفظ بها الذاكرة، لأنّ أساسها الفنّي غير صادقٍ ولا تستجيب مُنطلقاتها الفنّية لأيّ معيارٍ جماليّ، يجعلها دائمة الحضور والتجلّي في ذاكرة الناس ووجدانهم. ورغم المنزع التجريبي الموسيقي الذي تتميّز به أغاني لمجرّد، إلاّ أنّها تبقى ذات نفسٍ ترفيهي، يجعلها مُستهلكة وغير قادرة على البقاء والصمود في وجه التحوّلات التي تطال الأغنية المعاصرة.
ذلك إنّ الكثير من نماذجها، لا يخرج عموماً عن الموسيقى الإلكترونية التي يتوسّلها الكثير من الفنّانين، لا باعتبارها خياراً جمالياً، ولكنّها تغدو منتهى الصناعة الغنائية، حيث تختفي صورة المُغنّي وسُلطته ويحلّ محلّه صوت الآلة الإلكترونية وجبروتها. لا يملك سعد لمجرّد أيّ شيءٍ يُقدّمه للأغنية العربيّة المُلتزمة، بعيداً عن سياسات الترفيه ومنطق الاستهلاك، لأنّ أغانيه تُسمع وتُستهلك فتُنسى كأنّها لم تكُن يوماً رغم جماليّات صوته، قبل أنْ يتمّ تأجيج صورته من جديد داخل المحاكم الفرنسيّة أو عبر صُوَرٍ شخصية مع مطربات عربيّات. لذلك لم يعد المُتابع المغربيّ يهتمّ بأغانيه وكليباته فقط، بقدر ما أضحى يُطارد ويتصيّد أخباره وأسراره، فيظلّ يلعب ويلهو بما سمعه من أخبارٍ عنه وكأنّ في ذلك يكمُن بعثه وخلاصه.
ليس غريباً أن يحظى عرس فنّانٍ مغربيّ، بكلّ هذه الهستيرية التي هي عبارة عن فقاعة عابرة في سماء الغناء، لكون التجارب الغنائية الأصيلة تظلّ الأقوى على البقاء، ويستحيل أنْ تُجتث من جذورها أو تقتلعها رياح المساءات الخريفية أو تُغيّر مفاهيمها الجماليّة تيّارات الموضة، التي ينصاع لها أغلب المطربين والمطربات، بعدما يعملون على تغيير أساليبهم الغنائية، من أجل إرضاء جماهيرهم الهلامية من خلال أغاني العرض والطلب. لقد أصبحت أخبار النجوم بمثابة سيناريوهاتٍ مُتخيّلة يرنو إليها المُشاهد من أجل الاستمتاع، مع أنّ ذلك له علاقة له بالصناعة الغنائية، فهي مجرّد دردشاتٍ وثرثراتٍ فارغة تحجب الأغاني الأصيلة والجادّة.
فما الذي يستفيده المغاربة من معرفة أخبار عرس سعد لمجرّد أو من هي زوجته؟ أليس في هذا مرضٌ مجتمعي يقود أفراده صوب كوّة من الفراغ، في وقتٍ يتمّ فيه نسيان قضايا فنّية حقيقيةٍ داخل الساحة الغنائية، سواء من طرف المُشاهد النوعي أو حتّى من لدن النقد الذي يختفي يوماً بعد يوماً ويتراجع صوب الوراء، لأنّه أصبح بدون دورٍ، فأغلبه مُرتبط بكتُب ومجّلات مُحكّمة تبقى بعيدة عن القارئ المغربيّ. لذلك فإنّ غياب النقد يُساهم تدريجياً في نشوء مثل هذه الظواهر التي لا تزيد الصناعة الغنائية، إلاّ غربة وفساداً وتحيّراً وانحلالاً من مفاهيمها وسياقاتها وخصائصها، حيث يُصبح معيار تقييم المُغنّي يرتبط بمقدار تداول صور الفنّان ومصائبه ومواقفه وحياته الشخصية، بدل الاهتمام بمشروعه الغنائي وفهم الرجّات الجماليّة التي طالته منذ البداية.
لا يعنينا زفاف سعد لمجرّد، إلاّ باعتباره حدث عابر لا يستحقّ كلّ هذه الفوضى، مادام الأمر شخصياً وذاتياً مُرتبطاً به، ولا علاقة له بالمغاربة أو بأغانيه التي لم تعُد ملكاً له بمجرّد بثها على المواقع والقنوات، حيث غدت هذه الأغاني ملكاً للناس، وهم من يتحكّمون في مسارها ويحكمون على جمالها من عدمها. وبالتالي، فإنّ أيّ حديثٍ خارج عن الأغنية وصناعتها الموسيقيّة لا علاقة له بالفنّ، وإنّما بتكريس ثقافة تقوم على الترفيه وتطمح صوب الاستهلاك.