في هذه الزاوية الأسبوعية الجديدة، يلتقي Le360، بجملة من كبار الكتاب والشعراء والفنّانين والمخرجين من العالم العربيّ، ممن أُتيحت لهم الفرصة لزيارة للقراءة عن المغرب أو الإقامة فيه أو حتّى المرور عبره إلى أمكنةٍ أخرى، من أجل تقديم صورة جماليّة بانورامية خارجية عن البلد وعُمق عاداته وروعة تقاليده وحداثة ثقافته وجماليّات فنونه وما مارسه منذ سبعينيات القرن الـ 20 من سحرٍ على تفكيرهم وأجسادهم ومُتخيّلهم وجعلهم يحلمون ويتطلّعون أكثر إلى الالتحام بالواقع المغربيّ وتاريخه من أجل التفكير والكتابة والإبداع والابتكار.
إنّ الزاوية ليست مجرّد سفرٍ في الأمكنة والفضاءات والجغرافيا عموماً، وإنّما سفرٌ عميقٌ في سراديب الجسد وأحراش الذاكرة. سفرٌ ضاربٌ في عمق الثقافة والفنّ ودهشة السؤال. هنا يتحرّر العقل من صرامته الوجودية القهرية ويُطلق الجسد العنان أكثر لمُتخيّله ومشاعره وأحاسيسه في التعرّف على ثقافة الآخر وفنونه، حتّى يتمرّدان على صبغة العقل المنطقية ويُقدّمان معاً صورة ثقافيّة نوسطالجية عن أواصر الصداقة والحب التي انتسجت منذ منتصف القرن الـ 20 بين المغرب والمشرق.
الحلقة الرابعة من هذه الزاوية الأسبوعية، مع الشاعر العماني زاهر الغافري، وهو من الأسماء الشعريّة اللامعة، التي برزت منذ السبعينيات داخل المشهد الشعري العربي المعاصر. وتتميّز كتاباته دوماً بالتجريب وقُدرته على الخلق الشعري، لا بالاستناد مراجع شعريّة مألوفة في المشهد الشعري العربي أو العالمي، وإنّما من جعل جسده مُختبراً للقول الشعري، بحيث إنّ أغلب دواوينه الشعريّة، تكاد تكون عبارة عن أجساد متناثرة في طبيعة الحياة اليوميّة في فوضاها.
هذا وتجدر الإشارة، إلى أنّ الشاعر زاهر الغافري، يُعتبر من أكبر المثقفين معرفة بالثقافة المغربيّة، بكلّ حمولاتها التاريخيّة والفكريّة والتشكيليّة والمعمارية والسينمائية، بحكم أنّه درس بجامعة محمّد الخامس في الرباط وعاش لمدة 10 سنوات في المغرب، بحيث لا يوجد مثقف أو فنّان من الأجيال السبعينية والثمانينية لا يعرف تجربة زاهر الغافري وروحه المرحة العاشقة للصخب والحياة والترحال.
بداية، ما الأسباب الوجدانية والمعرفية، التي ساهمت في سيرة وتشكيل وعيكم وسفركم صوب المغرب؟
كنتُ أعرفُ عن المغرب وأنا في بغداد في السبعينات من القرن الماضي، ففي ذلك الوقت كنتُ أقرأ لبعض الكُتاب المغاربة ثم عندما ذهبتُ إلى باريس تعمقت معرفتي أكثر بالمغرب عبر القراءة عن الكُتاب والشعراء والفنانين. عشتُ في المغرب ما يقارب العشر سنوات في البداية كنتُ طالب فلسفة في جامعة محمد الخامس، أنهيتُ الدراسة فبقيت بالرباط ثم بعدها انتقلت إلى طنجة في الشمال.
كونّت صداقات كثيرة في المغرب مع الكُتاب والشعراء والفنانين في السينما والمسرح وفي طنجة تعرّفت على الكاتب محمد شكري والكاتب المسرحي الفرنسي جان جينيه والأمريكي بول بولز، في طنجة ولدت طفلتي الأولى من سيدة إعلامية معروفة هي فاطمة لوكيلي. طنجة التي يسميها المغاربة "العالية" أو "عروس الشمال" تختلف عن أغلب المدن المغربية لأنها تجمع بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي.
عشت في طنجة خمس سنوات وخبرتها على نحو عميق خصوصاً أن طنجة كانت في سنوات سابقة مدينة دولية فكان يذهب إليها جيل البيت الأمريكي وعازفوا الجاز والبلوز وكُتاب مثل صومائيل بيكت الذي رأيته ذات مرة في مقهى باريس والبرتو مورافيا وتنسي وليامز وآخرون، وميزة طنجة لا تنام إلا في الفجر، أعني مدينة مفتوحة على الحياة في مقاهيها ومطاعمها وحاناتها.
هل يُمكن أنْ نستلهم هنا عبارة محمود درويش المُدهشة: الطريق إلى البيت أجمل من الوصول إليه. كيف كان طريقكم إلى المغرب؟
الطريق إلى المغرب كان سهلاً وكان البيت جميلاً لكن ترافق هذا مع المشروع الشعري والكتابي وهذا ما كنت أبحث عنه وهي المغامرة الأهم التي لا تنتهي. إن أي وصول يُنهي المغامرة، وحياتي في المغرب ارتبطت بهذه المغامرة ولذة الاكتشاف.
ما الرؤى والأحلام والاستيهامات، التي اجتاحت مُخيّلتكم ورافقت رحلتكم صوب المغرب؟
هي رؤى وأحلام شكّلت مفصلا في حياتي خصوصاً أنني زرت المغرب آنذاك في العام 1978، وشكّلت لي المغرب بعد ذلك بعداً عائلياً بعد انتهائي من الدراسة ودخولي في بعمق في الحياة المغربية. طبعاً في أول زيارة إلى الغرب سكنتُ في فندق في الرباط يُطل على سوق باب الحد كان الأمر غريباً، في اليوم الأول من وصولي عام 1978 كانت اللهجة أو العامية المغربية غريبة عليّ في أول الأمر لكنني سرعان ما تجاوزت ذلك في مدينة الرباط مشياً وصلتُ إلى المدينة الحديثة في شارع محمد الخامس قرب البرلمان جلستُ في مقهى باليما شربت قهوة وبدأت أقرأ الصحف بعد ساعتين انتبهت إلى أنني ينبغي أن استكشف المكان فذهبت وحيداً إلى شارع مولاي عبد الله وللمصادفة وجذت حانة تسمى بغداد.
شارع أليف تظلله الأشجار لم أكن حينها أعرف أحداً لكنني سرعان ما استوعبت الدارجة المغربية لأنها لغة عربية ببساطة مع بعض التحويرات في اليوم التالي اخذت المسار نفسه حتى وصلت إلى محطة القطار ورأيت حانة قريبة من المحطة قلت لنفسي سأشرب بيرة وحينها رأيت رجلا ملتحيا سلم علي وسلمت عليه كان ذلك هو الكاتب ادريس الخوري فأصبحنا أصدقاء ثم كرة السبحة مع الأصدقاء وفي نفس الحانة وكان يأتي أحيانا محمد الهرادي.
شكّل المغرب حلقة هامّة ضمن مسار تحديث الثقافة العربيّة المعاصرة، لما ظلّ يلعبه من دورٍ فعّال في تقوية أواصر السؤال والصداقة والفكر مع المشرق العربي. من موقعكم البحثي/ الأدبي/ الفنّي، كيف ترون وتُقيّمون راهن الثقافة والفنون في مغرب اليوم؟
هذا صحيح غير أن فترة وصولي إلى المغرب لم تكن علاقة المشرق والمغرب في حينها كما هي الآن، نحن نعرف مثلاً الكاتب والأستاذ محمد برادة الذي درس في مصر وبعض الأساتذة الآخرين، اما الآن فأنا أتابع ما يكتبه أغلب الشعراء والشاعرات في المغرب من بعيد. أعرف البعض منهم ومنهن وهي تجارب شعرية يمكن القول عنها أنها غنية وخصبة.
هل شعرتم يوماً بأنّ الثقافة المغربيّة، تُعدّ امتداداً عميقاً لباقي الثقافات الأخرى المُنتَجة بالعالم العربي، بحكم ذلك التمازج المُتوهّج الذي رافقها منذ سبعينيات القرن الـ 20؟
هذا أكيد لكن ما يميز المغرب هي الدراسات الفكرية والنقدية أو الخطابات المُعمقة المتأثرة بحركة الفكر والنقد في فرنسا تحديداً فأغلب المثقفين المغاربة يكتبون ويتحدثون ويقرأون الفرنسية ولقد قدمت المغرب أمثولة رائعة في هذا المجال فنحن لا نستطيع أن ننسى الأستاذ عبد الله العروي أو عبدالفتاح كليطو أو الراحل عبدالكبير الخطيبي إلى آخره، وهذا ينطبق على الفنانين التشكيليين من محمد شبعة وفريد بلكاهية وفؤاد بلامين إلى آخر السلسلة وبعض هؤلاء كنت أعرفهم معرفة شخصية.
ما مدى تأثير الإنتاج المغربيّ على خصوصيات ثقافتكم، فكراً وأدباً وفناً؟ وهل تعتقدون أنّ ملامح هذا التأثير، تبدو بارزة وبشكلٍ قويّ داخل ثقافتكم وفنونكم في الحقبة المعاصرة؟
نعم دراستي للفلسفة في جامعة محمد الخامس قربتني من الإنتاج الفكري والنقدي المغربي فبالتالي فكانت المعرفة الفلسفية أكثر الملامح تأثرا في تجربتي وأنت تعرف أن الشعر والفلسفة تربطهما في العمق أنفاس الأخوّة. الثقافة المغربية امتداد عميق وحقيقي مع ما كان ينتج بالعالم العربي ينبغي أن لا ننسى ما كان يمثله الوطني علالي الفاسي وفترة جمال عبدالناصر في مصر ولا الكاتب عبدالكريم غلاب الذي التقيت به في الرباط مرات. بعد ذلك أصبحت على دراية بما كان يدور في المغرب على الصعيدين الثقافي والسياسي وما كان يهمني حقاً هو الجانب الثقافي والفني في المغرب. سكنت في شارع السينجال في شقة ثم سرعان ما انتقلت وحدي إلى شقة في حي المحيط، اللوسيون أقرأ وأكتب. إذا أحببت مكاناً فينبغي أن تعطي روحك إلى أن تستوطن المكان وهذا ما حدث لي.
لكنْ، حين تسمعون المغرب، ما أوّل شيء يتبادر إلى أذهانكم؟
يتبادر إلى ذهني ذلك التنوع الثقافي والحضري بما في ذلك التنوع المعماري الموجود في المغرب من شماله إلى جنوبه وإلى الأحياء السكنية والأسواق الشعبية والأسوار القديمة.
هل تعتقدون أنّ الصُوَر والرؤى والأحلام والتمثّلات، التي نُكوّنها عن بلد ما، تكون صادقة لحظة الاصطدام بالواقع الحقيقي وعاداته وتقاليده وثقافته وفنونه؟
لم تشكل، بالنسبة لي على الأقل لحظة الاصطدام الواقع الحقيقي للمغرب أية صعوبة أو إشكالية بل شكلّت انسجاماً مع عاداته وثقافته خصوصاً وأنني كنتُ قادماً من بغداد ثم أن المغرب يمتاز بتنوع مناخه والتنوع في موسيقاه الثرية. ما أريد أن أقوله هو أنني لم أكن أملك تصورات مسبقة عن المغرب وواقعه أتيت إلى المغرب بعفوية شديدة وتركت المكان لكي يخاطبني كما هو، وأظن أن هذه هي الطريقة المثلى لاكتشاف المكان والتحاور معه، فأنا لم أدخل إلى المغرب كسائح عابر. كان هناك بعض الزملاء القلائل من الطلبة العُمانيين لا يتجاوز عددهم الخمسة وهؤلاء تخرجوا من الجامعات المغربية ثم عادوا إلى عُمان اما انا فمكثت في طنجا وكنت العُماني الوحيد المقيم في المدينة.
ما المُدن والفضاءات التي قُمتم بزيارتها أو عشتم داخلها في المغرب لسنواتٍ، لكنّها ساهمت في تغذية ذواتكم وتفكيركم ومُتخيّلكم في سنواتٍ أخرى لاحقة؟
إقامتي الأولى كانت في الرباط والثانية في مدينة طنجة لكنني زرت كل المدن المغربية وكل مدينة لها ملمح خاص فأغادير التي تقع على البحر لها ملمح خاص وبالتالي تختلف عن مدينة فاس أو مدينة مكناس على سبيل المثال، وكذلك عن مدينة افران البادرة والثلجية في فصل الشتاء لكن طنجة هي المدينة التي أدهشتني وأخذت بيدي إلى مديات أعلى وأخصب وهي المدينة التي منها خرجت وقطعت البحر الأبيض المتوسط في اتجاه الولايات المتحدة الامريكية وتحديداً إلى مدينة نيويورك.
بعد كلّ هذه السنوات، ما الذي تبقّى في جسدكم من المغرب، ثقافياً وفنياً وفكريا؟
ما تبقى هي تجربة الحياة بعينها لقد قضيت في المغرب حياة هي واحدة من أجمل سنوات عمري لقد عشت فيها طولاً وعرضا وكوّنت صداقات رائعة أعتز بها رغم رحيل بعض من أجمل الأصدقاء والكتاب كمحمد شكري ومحمد زفزاف وادريس الخوري والمسرحي الكبير الطيب صديقي والشاعر المغربي الذي كان يكتب بالفرنسية محمد خير الدين. هذه الصداقات الرائعة أعتز بها. لهذا أفكر دائماً أن المغرب بالنسبة لي كان مركز وجود ففي كل خطوة من خطواتي كنتُ أفكر بهذا المغرب الواسع، كنت أفكر بجبال الاطلس مثلاً أو بعودة الاندلسيين من اسبانيا، الذين سكنوا في تطوان أو فاس أو مراكش، بعبدالله الصغير آخر ملوك الطوائف. هذا المغرب المتعدد كان يفتنني.