ليس التراث موضوعاً فنياً، ولكنّه موضوعٌ فني طالما شغل المفكرين المغاربة. وفي هذا السياق هناك من ذهب إلى ضرورة القطع مع التراث من أجل بناء مشروع حداثي يجد ملامحه في التربة الكونية وتحوّلاتها. وهو رأيٌ فكريّ يؤمن بمفهوم القطيعة مع التراث من أجل الانغماس في نوع من الهوية المركّبة. في حين أصبح البعض الآخر من سدنة وحراس التراث، فبدل أنْ ينتقد التراث ويعمل على تفكيكه يصير لوناً من ألوانه. والحقيقة أنّ هذا النوع من المفكّرين الذين يعيشون في غيبوبة التراث يتعاملون مع النصوص القديمة وكأنّها نصوصٌ دينية لا تقبل التفكير ولا التأويل ولا النقد، معتقدين أنّ في الماضي شيئاً من الخلاص البشري. لهذا قد يتساءل المرء كيف يُمكن لفكر يعيش في سراديب الماضي أنْ يُجيب على بعض من أسئلتنا القلقة تجاه واقعنا اليوم. مفكرون وكتاب وباحثون جعلوا من التراث منطلقاً لتفكيرهم وإقامة دائمة في ليل النصوص وهو يُنقّبون عن مخطوطات وسياقات ومفاهيم لا نعرف كيف ستُفيدنا اليوم ونحن على أهبة واقع جديد.
إنّ الطريقة التي عبّرت بها بنشليخة عن موقفها في بعض الفنانين الذين يُقلّدونها، بدت وكأنّها ترى في التراث ملكاً لها وحدها، حيث يُطاوعها لتستخدمه في أغانيها، في وقتٍ هناك تجارب غنائية كثيرة سبقتها في هذا المجال. ليس المهمّ أنْ يشتغل المرء على التراث وإنّما يعرف كيف يُمكن أنْ يُعبّر من خلاله بصرياً ويقتحم به فضاء الأغنية وجمالياتها. مع العلم أنّ التراث في تجربة بنشليخة مجرّد إكسيسوار، فهو لا يحتلّ مكانة مركزية، أيْ أنْ يغدو عموداً فقرياً للأغنية وأساسها الفنّي. وإذا تتبعنا مجمل أغاني منال بنشليخة التي ترى فيها تمتلك وعياً بالتراث، سنجد أنّ صاحبة « مخلا مكالو » تفتقر إلى مفهوم أنطولوجي للتراث. ذلك إنّ التراث نستوعبه وندركه ولا نُحاول أنْ نصير رمزاً من رموزه، وإلاّ أصبحنا سجناء هذا التراث. وبالتالي، تنتفي معه اللحظة بالانتماء إلى الواقع الفيزيقي الحيّ والتعبير عنه غنائياً.
التراث ليس ملكاً لأحد، الكلّ له الحقّ في استخدامه موسيقياً وتوظيفه غنائياً والتفكير فيه كتابة، وذلك لأنّه موروث حضاري للإنسانية جمعاء. لهذا فإنّ الأهم هو كيف نفهم هذا الموروث بمختلف علاماته ورموزه في سبيل البحث عن أغنية مختلفة وإيقاع مغاير وصورة مدهشة تبق عالقة في الذاكرة والوجدان.