قبل يومين من المظاهرات ضد إصلاح نظام التقاعد، التي وقعت يوم 19 يناير في عدة مدن في فرنسا، تناول الرئيس إيمانويل ماكرون الغداء في سرية تامة مع عشرات من كتاب الأعمدة السياسيين. الهدف من هذا الاجتماع السري: تزويد الصحافيين ببعض المعطيات.
في قائمة هذا الغداء: خدمة توجهات الرئيس ماكرون. وهذا ما تحقق بالفعل. فوسائل إعلام مثل «لوموند» و«لوفيغارو» و«فرانس أنتير» و«بي إف إم تي في» و«إر تي إل» و«ليزيكو» و«فرانس تيلي»، التي تمت دعوتها إلى هذا الغداء السري، رددت كلها بصوت واحد ما قاله إيمانويل ماكرون. ولكن دون نسبة تلك الأقوال إلى الرئيس الفرنسي أو وضعها بين معقوفتين.
كما كتب كاتب العمود دانيال شنايدرمان، فإن الصحافيين «المحظوظين» المدعوين إلى مأدبة الغداء السرية تحولوا إلى «ناطقين باسم» الرئيس ماكرون. واستنكر «تحويل الصحافيين إلى مجرد ببغاوات للسلطة».
رئاسة التحرير، السرية ولكن المقصودة للرئيس الفرنسي، هي علامة مميزة للماكرونية. فقد جمع ماكرون سفراء الجمهورية الفرنسية في فاتح شتنبر 2022، وحثهم على «استخدام الشبكة الإعلامية الفرنسية» بهدف «مواجهة روايات الروسيين أو الصينيين أو الأتراك». إنه أول رئيس للجمهورية الخامسة يدعو أيضا صراحة إلى استخدام وسائل الإعلام من قبل جهاز الدولة لدعم الخط السياسي للرئاسة.
إذا كان ماكرون يجمع سرا الصحافيين في قصر الإليزيه ليملي عليهم ما يجب عليهم فعله في موضوع السياسة الداخلية، ألا يفعل الشيء نفسه بالنسبة للسياسة الخارجية؟ مقال نشرته صحيفة «لوموند» يوم 10 فبراير 2023 يحمل طابع الإليزيه. بطبيعة الحال، يتم الحرص على عدم الإشارة إلى المصدر في ملفات السياسة الخارجية أكثر منه في ملفات السياسة الداخلية.
كان من المفترض أن يحلل مقال لوموند الخلاف الجديد بين باريس والجزائر، بعد هروب الناشطة الفرنسية-الجزائرية أميرة بوراوي من تونس، الأمر الذي أثار رد فعل هستيري من جانب النظام الجزائري الذي سارع إلى استدعاء سفيره المعتمد في فرنسا. لكن قراءة متأنية لما بين السطور، المقال يحبل من البداية إلى النهاية بكلمات ماكرون الموجهة إلى الطغمة العسكرية الجزائرية. في هذه القضية الثنائية، التي لا تهم المغرب لا من قريب ولا من بعيد، هناك معطيات ربما أملاها الإليزيه لطمأنة الطغمة العسكرية في الجزائر بشأن «التوجه الجزائري» لماكرون.
«التحول الجيوسياسي» الذي يقوم به إيمانويل ماكرون في المغرب الكبير
أولا، يتعلق الأمر بـ«التحول الجيوسياسي» الذي يقوم به ماكرون. وهكذا نعلم أن «استثمار إيمانويل ماكرون الضخم في التقارب مع الجزائر هو مخطط طويل الأمد. هذا النوع من الطموح -الجيوسياسي- لا يمكن التخلي عنه بسهولة، مهما كانت الصعوبات الحالية». وهكذا، ما تصفه «لوموند» بـ«العاصفة الحالية» «لا ينبغي أن يزعزع أسس المقاربة الرئاسية في المغرب الكبير، وهذا الخط الفاصل بين رهان جزائري مضطرب والحفاظ على علاقة مع المغرب، كانت مميزة في الماضي، ولكن اليوم تدهورت». ثم يتوجه المقال أيضا إلى الطغمة العسكرية، من خلال معطيات يقدمها الإليزيه، ليؤكد أن «التباعد السائد بين باريس والرباط هو ضرر جانبي ناتج عن التوجه الجزائري لإيمانويل ماكرون».
وذكرت الصحيفة الفرنسية «ضغوط الرباط على باريس من أجل تغيير موقفها من الصحراء». وإحدى الرسائل المهمة التي وجهها الإليزيه بوضوح على أن «باريس لا تبدو مستعدة لتغيير موقفها بشأن هذا الموضوع، أي اعتبار مخطط الحكم الذاتي المغربي المتقرح في عام 2007 «أساسا جادا وموثوقا لأي حل سياسي مستقبلي».
وهكذا، فمن خلال مقال، غرضه الأساسي هو طمأنة الطغمة العسكرية حول «التوجه الجزائري» لماكرون، نعلم أن الأخير لن يغير موقف فرنسا بشأن الصحراء.
بغض النظر عن هذه الصحافة التي تعطي دروسا عن استقلاليتها والتي هي في الواقع تابعة وذيلية للسلطة، ما يجب أن نؤكد عليه بخصوص نزوع الماكرونية لممارسة رئاسة التحرير هو أوجه التشابه المذهلة في مقاربة ملف التقاعد من قبل وسائل الإعلام المدعوة إلى غداء سري مع الرئيس الفرنسي والمقالات المعادية للمغرب.
أما بالنسبة لـ«التوجه الجزائري» لماكرون، فكان على «لوموند» أن لا تكلف نفسها عناء الإشارة إلى ذلك. ففي الوقت الذي يتم الحديث فيه عن احتمال وقوع نزاع مسلح بين الجزائر والمغرب، استقبل الرئيس الفرنسي في الإليزيه رئيس أركان الجيش الجزائري. توقيت هذا الترحيب برئيس جيش يسعى لمهاجمة المغرب يظهر بجلاء أن ماكرون اختار معسكره.