وقد اعتمدت نظرية الواقعية على مفاهيم خاصة لعل أبرزها (الدولة، القوة، المصلحة العقلانية، هاجس الأمن والبقاء..) اعتبرت بمثابة مفاتيح في العلاقة بين الدول.
إنها مدرسة تستهدف ضمان المصالح المتبادلة بعيدا عن أوهام المثالية السياسية، وهي بمثابة رؤية استراتيجية ذات بعد استشرافي ينحو للمستقبل.
في هذا الإطار، نجد أن الموقف الإسباني من الصحراء المغربية، لم يأت هكذا صدفة، وإنما إدراكا من صانع القرار الإسباني أن العلاقة الديبلوماسية المغربية الإسبانية تعتمد على استراتيجية عقلانية وواقعية في تدبير العلاقات بين البلدين الجارين، مع العلم أن الاستراتيجية هي علم وفن لاستخدام الوسائل والقدرات المتاحة في إطار عملية متكافئة يتم إحداثها والتخطيط لها بهدف خلق هامش من حرية العمل يعين صناع القرار على تحقيق سياستهم العليا وفق عمل دبلوماسي يستند للواقعية ولحس استباقي دقيق.
إن المغرب الدولة الأمة ذات الامتداد التاريخي والحضاري العريق، يعتبر حلقة وصل بين أوربا وإفريقيا، وقوة صاعدة يجب تثمين العلاقة معها سواء في الجانب الاقتصادي أو الأمني، كما أن المغرب يعد منطقة استراتيجية للربط بين القارتين في الجانب الاقتصادي، لذا كان من اللازم ترسيخ أسس جديدة من أجل فتح آفاق واعدة للتعاون المشترك، وهي شراكة تتجاوز الإطار الثنائي من أجل صالح المنطقة.
إن صانع القرار الإسباني يدرك جيدا أن العلاقة مع المغرب ضرورية بالنسبة لأمن إسبانيا واستقرارها، وأنه محكوم على البلدين الجارين بالتعاون وتبادل الثقة وحسن الجوار، مما يعطي أملا في تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين الجارين ويؤسس لاندماج فعال لضفتي البحر الأبيض المتوسط انتصارا لعلاقة واقعية تطمح إلى المستقبل بروح من الثقة والتشاور، مع العلم أن إسبانيا اليوم هي أول شريك تجاري للمغرب على مستوى الصادرات والواردات معا، والمغرب هو ثالث شريك تجاري لإسبانيا من خارج الاتحاد الأوربي وأول وجهة للصادرات الإسبانية في إفريقيا، حيث بلغت قيمة المبادلات التجارية بين البلدين17مليار يورو في سنة 2021 وشهدت ارتفاعا في سنة2022إلى أكثر من 21في المئة، ويحتضن المغرب أكثر من ألف شركة إسبانية تنشط في قطاعات حيوية، كما أن أكثر من 600 شركة تحوز أسهما في شركات مسجلة في المغرب، بينما وصل عدد الشركات الإسبانية التي تصدر للمغرب إلى أكثر من 20 ألف شركة وفق أرقام اتحاد المقاولات.
وعلى المستوى الأمني، تم تفكيك العشرات من الخلايا الإرهابية في إسبانيا والمغرب، نتيجة التعاون الوثيق بين الأجهزة الأمنية في البلدين، بينما بلغ عدد محاولات الهجرة التي أوقفتها الأجهزة الأمنية المغربية عشرات الآلاف.
علينا إذن أن نعزز هذا الرصيد المشترك حماية لمستقبل الأجيال القادمة، وأن نتطلع سويا إلى علاقة أكثر عمقا ومتانة، لأن المغرب البلد الجار والصديق والحليف والشريك المرجعي لإسبانيا، كما قال المدير العام لشؤون المغرب العربي وإفريقيا والبحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط بوزارة الشؤون الخارجية الإسبانية » ألبرتو خوسيه أوسيلان أوريتش » يوم 15 فبراير 2023بمدريد خلال افتتاح الدورة الثانية لليوم الدولي لهيئة المحامين بمدريد التي خصصت للمغرب، وزاد موضحا » المغرب بلد توأم حقيقي لبلدنا، من خلال الجغرافيا والتاريخ وقبل كل شيء من خلال المستقبل، ولدينا علاقة جوار مكثفة معه، مما يجعله شريكا مرجعيا أساسيا بالنسبة لنا ».
إن ما صرح به هذا المسؤول الإسباني يجعلنا نستحضر الخطاب الشهير للرئيس الأمريكي » جون كينيدي » يوم 17ماي 1961أمام مجلس الشيوخ الأمريكي مخاطبا الكنديين: " لقد حتمت علينا الجغرافيا أن نكون جيرانا، وأرادنا التاريخ أصدقاء، وأصبحنا بحكم الاقتصاد شركاء، وشاءت الضرورة أن نصير حلفاء، إن من جمعتهما الطبيعة هكذا، لا يمكن لأي كان أن يفرق بينهما.. ».
نعم إن التطلع إلى المستقبل، لا يأتي هكذا من دون مقدمات أو لمجرد الرغبة في ذلك، والتحولات ليست مجرد أمنية أو صدفة تاريخية أو تبديل شخص بآخر، إنها قرارات تتخذ بناء على دراسات وتحاليل ومعطيات، وليس بناء على مزايدات حزبية.. إنها مواقف واضحة ومسؤولة تنتصر للمشروع الحضاري المغربي الإسباني.