جلال دريسي يكتب: الدار البيضاء.. البحث دائم عن الحكامة الجيدة

عادل كدروز - Le360

في 18/08/2022 على الساعة 20:15

في الدار البيضاء، يجب إيجاد صيغة للتوفيق بين تدبير مدينة عملاقة، ومشاريعها المهيكلة الكبرى، والتدبير المحلي لصالح المناطق المكتظة بالسكان. بين وحدة المدينة التي تجعل كل شيء يعود إلى "مركزين" لصنع القرار... و"التجزئة"، يجب إيجاد طريق وسط.

 في عام 2002، دمج نظام "وحدة المدينة" الجماعات المكونة لست مدن يزيد عدد سكانها عن 500.000 نسمة: الدار البيضاء والرباط وطنجة ومراكش وفاس وسلا. لمدة 20 عاما، كانت تدار تلك المدن من قبل مجلس جماعي واحد في إطار عمالة واحدة.

وهنا نستحضر حالة الدار البيضاء الإشكالية، لأن تدبير مدن الرباط ومراكش وطنجة في إطار وحدة المدينة تسير عموما بشكل جيد ولا تثير الجدل. فاس وسلا تعرفان بعض العوائق في تدبيرهما، ولكن على أي حال أقل من الدار البيضاء.

حكامة الدار البيضاء، التي تبلغ مساحتها 38400 هكتار (384 كم 2) وسكانها البالغ عددهم 4 ملايين نسمة، تفترض أن السلطات اللامركزية واللاممركزة تعرف كيفية تدبير المدن متوسطة الحجم، ولكن عندما يتعلق الأمر بمدينة عملاقة أو "وحش حضري"، فإنها تكون عاجزة!

"الوحش الحضري" بمعنى المجال الضخم، ولكن دون أن تكون له دلالة قدحية، لأن الدار البيضاء، حتى لو كانت تثير الغضب، فإن لها أيضا مكانة خاصة لدى البيضاويين. فهي مدينة مضيافة، عالمية، كريمة، ديناميكية ومبدعة. فكيف لا تكون كذلك، طالما أنه من خلال اسمها الذي هو من أصل أوروبي، نحمل في هويته أفكار الانفتاح والتسامح والانصهار؟

لكن الحقيقة أن هناك قلقا كبيرا يحيط بتدبير المدينة البيضاء، التي تميل واجهاتها أحيانا إلى اللون الرمادي! تم التشخيص ألف مرة سواء من قبل البيضاويين القاطنين في الأحياء الراقية أو البيضاويين القاطنين في الأحياء الهامشية (المهملة أو المنسية) أو حتى من قبل سائق سيارة الأجرة، مرورا بالخبراء أو المختصين بالتعمير أو القانونيين ذوي الخبرة.

الشعور بالقلق إزاء غزو الإسمنت وغياب المساحات الخضراء ومشاكل المرور والصرف الصحي والنقل رغم الإنجازات المحققة. الأرصفة التالفة والحفر في كل مكان وعدد لا يصدق من إنارة الشوارع المعيبة. والأدهى من ذلك الفوارق المجالية والتناقضات الكبيرة التي يتضح من الحزام المحيطي، الذي يتوسع باستمرار، مع ما ينتج عن ذلك في بعض الأحيان من قبح حضري. ودائما هذا الانطباع بعدم الانتهاء من العمل في الأوراش التي يفترض أنها منتهية في المناطق العمرانية الجديدة. عدم وجود وحدة جمالية للنسيج الحضري لافت للنظر. ليس هذا هو الحال في الرباط أو مراكش أو طنجة، حيث النسيج الحضري منسجم.

لا يمكن ربط هذه المشاكل بالأشخاص، لأن مختلف الشخصيات (المنتخبون أو الموظفون) قد تعاقبوا على تدبير الدار البيضاء. لقد واجهوا نفس العوائق الناتجة بشكل رئيسي عن كبر المجال وعن الإطار القانوني الذي جمع الدار البيضاء في كيان واحد. مجلس جماعي واحد وعمالة واحدة.

إن مجالس المقاطعات الـ16 "التي لا تتوفر على الشخصية القانونية" هي بنيات ضعيفة على الرغم من أنه يتم منحها ميزانية ولكن إدارتها تتأرجح بين الهواية واللامسؤولية. تبذل عمالات المقاطعات الثمانية قصارى جهدها، لكنها تفتقر إلى الوسائل والصلاحيات للمساهمة بشكل فعال في الفعل الاجتماعي والاقتصادي فوق ترابها.

كان ينتظر أن تقوم مجالس المقاطعات بتنفيذ سياسة قرب فعالة في مجال الثقافة والرياضة والحدائق والمتنزهات والمساحات الخضراء والإضاءة العامة وإصلاح الأرصفة والطرق العامة والنظافة... كل هذه الأشياء المهمة في "الحياة اليومية لسكان المدينة". لكن هناك أمثلة كثيرة تدل على الإهمال والتراخي!

هل يجب أن يعود كل شيء إلى رئيس الجماعة والعامل لأن القانون أعطاهما كل الموارد والصلاحيات؟ ليست هناك بنيات وسيطة وقوية ومسؤولة للمساعدة في تدبير هذا المجال الشاسع. الإطار القانوني الحالي يفضل "الماكرو-تدبير" على حساب "الميكرو-تدبير" الذي يستهدف سياسة القرب وتحقيق انتظارات الساكنة.

الواضح أنه من غير الوارد العودة إلى هذا العدد الكبير من الجماعات والعمالات التي كانت قبل وحدة المدينة. كانت الموارد مشتتة ولم يكن نظام المجموعة الحضرية فعالا دائما. لكن هذه الصيغة القديمة، رغم محدوديتها، كانت تهتم بسياسة القرب.

يقول البعض إننا لن يتم التراجع أبدا عن "وحدة المدينة". موافق، ولكن يجب إيجاد صيغة للتوفيق بين تدبير مدينة عملاقة، ومشاريعها المهيكلة الكبرى، والتدبير المحلي لصالح المناطق المكتظة بالسكان. بين وحدة المدينة التي تجعل كل شيء يعود إلى "مركزين" لصنع القرار...و "التجزئة"، يجب إيجاد طريق وسط.

دعونا نفحص بعض الأمثلة على إدارة المدن الكبرى الدولية. لنبدأ بالنموذج الأقرب إلى نموذج "وحدة المدينة" وفقا للنموذج الفرنسي المحدث بموجب "القانون رقم 82-1169 الصادر 31 دجنبر 1982 المتعلق بالتنظيم الإداري لباريس ومرسيليا وليون".

وفقا لهذا القانون، فإن "وحدة المدينة" تخص مدينة باريس وحدها، أي مساحة صغيرة تبلغ 105 كيلومترات مربعة يبلغ عدد سكانها ما يقرب من مليونين و161 ألف نسمة. بالنسبة لمرسيليا (خارج المنطقة الحضرية)، فهي تتعلق أيضا فقط بمساحة 240.62 كيلومتر مربع وسكانها البالغ عددهم 870.731 نسمة. وأخيرا، فإن وحدة المدينة في ليون تخص فقط 47.87 كيلومترًا مربعًا يسكنها 513275 نسمة.

وهذا لا علاقة له بـ"وحدة المدينة" عندنا، خاصة بالنسبة لجماعة الدار البيضاء العملاقة التي تبلغ مساحتها 384 كيلومترا مربعًا وعدد سكانها 4 ملايين نسمة. أكثر من 3 مرات مدينة باريس.

يتعرض القانون الفرنسي حاليا لانتقادات في فرنسا من قبل رؤساء المقاطعات. ويشكل، كما يقولون، عقبة أمام سياسة القرب. علاوة على ذلك، فإن "التجمعات العالمية" الكبيرة مثل مدريد وشيكاغو وطوكيو وبرشلونة.. جميعها لديها مناطق وسطى تتمتع بسلطات وموارد كبيرة. على سبيل المثال، "مدينة برشلونة" التي يبلغ عدد سكانها مليون و62 ألف نسمة (101.9 كيلومتر مربع) مقسمة إلى 10 مناطق.

إن لمحة تاريخية موجزة مفيدة للتذكير كيف أن المنتخبين الذين مارسوا عهدتهم على مستوى الجماعات المتعددة في الدار البيضاء (في الوسط والمحيط) كان عليهم أن "يتعلموا" وحدة المدينة، بعد التغيير الذي حدث في عام 2002. أول عمدة (عن الاتحاد الدستوري) في نظام "وحدة المدينة" تولى المنصب لولايتين. من عام 2003 إلى عام 2015. وعلى كل حال، تم العمل بنظام الحكامة الجديد. لكنه اتسم بعدة فترات من الانسداد والخلافات داخل المجلس.

وجد المنتخبون من المناطق المحيطية والأحياء الشعبية، الذين يشكلون أكبر عدد من أعضاء المجلس البالغ عددهم 145، أنفسهم، بعد انتخابات عام 2003، في "قلب" المدينة لتدبير سادس أكبر مدينة في إفريقيا. سلطة جديدة غير متوقعة أدهشت العديد منهم وأثملتهم. وأحدث لهم أيضا صدمة اجتماعية-ثقافية. بالطبع، لا يكن من الممكن تجنب الهواية والارتجال. كما تميزت هذه الفترة بالمزايدات السياسوية والشعبوية، حيث بدأ حزب العدالة والتنمية في التحضير للسيطرة على مجلس المدينة.

أسفرت الانتخابات الجماعية لعام 2015 عن فوز حزب العدالة والتنمية بالأغلبية. هنا أيضا بدأت فترة متوترة. وقد تم انتقاد هذا المجلس لاتباعه سياسة انتخابوية تحسبا للمواعيد الانتخابية في المستقبل من أجل التجذر بشكل أفضل. ورغم فوزه برئاسة 12 مجلس مقاطعة من أصل 16 مجلسا، إلا أنه لم ينخرط في سياسة قرب فعالة، رغم تقديمه منح لجمعيات ذات هدف "اجتماعي"!

ومن المعروف أيضا أن تدبير حزب العدالة والتنمية في الدار البيضاء قد أهمل الثقافة والفنون، والتي كانت دائما آخر اهتماماته. المجمعات الثقافية، التي كانت لها إشعاع، أصبحت في حالة يرثى لها. اكتشف المجلس الحالي اليوم أن الـ500 مليون درهم المخصصة للبرامج الاجتماعية والثقافية لم تنفق خلال ولاية حزب العدالة والتنمية. أخيرا، منحت انتخابات 20 شتنبر 2021 الأغلبية لحزب التجمع الوطني للأحرار، لكن لا يزال من المبكر الحكم عليها.

ولكن ما أنقذ المدينة هو إحداث "شركات التنمية المحلية" (في شكل شركات مجهولة الاسم) خلال تعديل الميثاق الجماعي في عام 2009. وكانت هذه أيضا طريقة للتغلب على عجز في التدبير والبطء البيروقراطي. تسمح شركة التنمية المحلية التي يرأسها مجلس إداري الذي يضم ممثلين عن المساهمين، ومعظمهم من المؤسسات العمومية- بتدبير أكثر احترافية للمرفق العمومي المحلي. كما أنه يتمتع بمرونة التدبير التي تتمتع بها شركة مجهولة الاسم، ولكن في إطار المصلحة العامة التي تضمنها الجماعة الترابية.

اليوم، تدير شركات التنمية المحلية ميزانيات كبيرة وتنفذ مشاريع في الأشغال العمومية والبنيات التحتية والنقل والأنشطة الثقافية والرياضية وجاذبية المدينة والتراث والتحول الرقمي والموارد، وما إلى ذلك. بالإضافة إلى نجاحها وخاصة فيما يخص المشاريع المهيكلة الكبرى التي أطلقتها الدولة، يجب الاعتراف بأن شركات التنمية المحلية لديها، في الوقت الحالي، رؤية "ماكرو ترابية" للمدينة وعلى هذا النحو...لا تزال غير مناسبة فعل قرب حقيقي.

إلى جانب هذه الملاحظات، يجب الاعتراف بأن مدينة الدار البيضاء توفر الخدمات الأساسية (توزيع المياه والكهرباء والكيساريات والمراكز التجارية في كل مكان وتدبير مياه الأمطار وجمع النفايات والنقل بواسطة حافلات تم تأهيلها نسبيا...). لكنها تستطيع أن تفعل ما هو أفضل. كما أن المشاريع الكبرى مرضية، مثل مسرح الدار البيضاء الكبير ومارينا الدار البيضاء وإعادة تهيئة مطار أنفا السابق، وحديقة أنفا والترامواي والباصواي، والقطب المالي للدار البيضاء...

يعتقد البعض أن تحسين تدبير الدار البيضاء مسألة موارد مالية. ويعتقد البعض الآخر أن الموارد المالية موجودة وأن الأمر لا يتعلق حتى بكيفية إنفاقها. سواء من خلال شركات التنمية المحلية أو من خلال الإدارة المباشرة من قبل المنتخبين. إنها قبل كل شيء مسألة حكامة ورؤية وتصور... وأيضا مسألة حب لمدينة والذي يجب أن يضع جانبا المصالح الأنانية أو السياسية أو الحزبية الضيقة. وبدلا من الخوض في الظواهر العارضة أو الجانبية، يجب أن يركز التشخيص على مساءلة الإطار القانوني ونمط الحكامة الذي غالبا ما يولد الفوضى الحضرية.

وبغض النظر عن الخبرات والتحليلات المالية الأكثر دقة، لن يتغير شيء إذا لم يتم تعديل أسلوب الحكامة. أسلوب حكامة لا ينسى أي جزء من مجال الدار البيضاء ويجب أن يتسم بالانسجام والتماسك الناتج عن رؤية شاملة.

إذا تم العثور على الصيغة الصحيحة، فيسير كل شيء على ما يرام. حتى السلوكات غير الحضرية ستختفي. كما يتعين من معرفة ما يتم القيام به بشكل أفضل في المدن الدولية الأخرى والاستلهام منها بطريقة حكيمة.

تحرير من طرف جلال دريسي
في 18/08/2022 على الساعة 20:15