انفجرت فضائح ابتسام حملاوي، رئيسة منظمة الهلال الأحمر الجزائري والمرصد الوطني للمجتمع المدني، في الآونة الأخيرة، بعد خروج بعض ضحاياها عبر مقاطع فيديو تتهم هذه المسؤولة باستغلال النفوذ والتدخل في القضاء، إضافة إلى ارتكابها تجاوزات جسيمة شملت تحويل مساعدات إنسانية موجهة لمخيمات تندوف وقطاع غزة إلى السوق السوداء، ما أثار موجة من الغضب الشعبي والمطالب بفتح تحقيق رسمي وشامل.
حملاوي تحكم وتنفّذ
بدأت القصة قبل أيام فقط، حين اعتقلت الناشرة والكاتبة الجزائرية زينب مليزي المعروفة باسم «سليمة»، بسبب منشور على فيسبوك انتقدت فيه طريقة تسيير بعض المنظمات الرسمية التي تشرف عليها ابتسام حملاوي.
وأثار اعتقال الكاتبة البالغة من العمر 65 سنة موجة تضامن من طرف الجزائريين في الداخل والخارج، حيث اعتبر ناشطون أن سجنها بسبب منشور رأي يطرح تساؤلات عن حدود حرية التعبير.
وفي المقابل، وجهت انتقادات لاذعة للنفوذ الواسع الذي تتمتع به حملاوي، التي تشغل في الوقت نفسه منصبين حساسَين: رئاسة الهلال الأحمر الجزائري ورئاسة المرصد الوطني للمجتمع المدني، وهي من المؤسسات التي تُعد واجهة للدبلوماسية الإنسانية والسياسات الاجتماعية للدولة الجزائرية.
وأسفرت موجة الانتقادات التي عمت مختلف منصات مواقع التواصل الاجتماعي بالجزائر عن الإفراج عن الكاتبة مليزي بعد يومين من اعتقالها، بيد أن العاصفة لم تهدأ، إذ ظهر المسؤول السابق للهلال الأحمر في ولاية سكيكدة، ياسين بن شطاح، في بث مباشر صادم كشف فيه ما وصفه بـ«تجاوزات خطيرة» داخل المؤسسة، ووجّه اتهامات مباشرة إلى ابتسام حملاوي بالتدخل في القضايا القضائية واستخدام النفوذ السياسي لتصفية حسابات داخلية
وقال بن شطاح في الفيديو الذي تجاوزت مشاهداته نصف مليون خلال ساعات، إن ابتسام حملاوي تتلقى دعما مباشرا من الرئيس عبد المجيد تبون ومحيطه داخل قصر المرادية، وأنها تتدخل في ملفات قضائية وأمنية حساسة.
كما روى مدير البرامج السابق بمنظمة الهلال الأحمر تفاصيل مروعة عن اعتقاله وتعذيبه بعدما حاول فضح تجاوزات رئيسته ابتسام حملاوي، كاشفا تدخل هذه الأخيرة لدى عناصر الدرك لتشرف شخصيا على تعديل محاضر التحقيق، مؤكدا أنها هددته بعبارات مهينة أمام عناصر الأمن، كما بصقت عليه داخل المحكمة متوعدة إياه بالسجن الطويل.
وقد تحقق هذا الوعيد بالفعل بعد الحكم عليه بالسجن سنتين، إحداهما نافذة، على خلفية اتهامات تتعلق بفضح تحويل المساعدات الإنسانية الموجهة لمخيمات تندوف وغزة وبيعها في السوق السوداء، وهي القضية التي كشف عنها بالتعاون مع زميلته هاجر زيتوني، مديرة الاتصال والإعلام بالهلال الأحمر الجزائري.
نهب المساعدات وسوء التسيير
كشف الموظفان السابقان بالهلال الأحمر الجزائري ياسين بن شطاح وهاجر زيتوني، عن خروقات واسعة في تسيير المساعدات من طرف ابتسام حملاوي، التي عينها الرئيس تبون في هذا المنصب عام 2020.
تعود فصول القضية إلى سنة 2023، عندما رصد بن شطاح وزيتوني «خروقات خطيرة» داخل الهلال الأحمر الجزائري. وتضمنت هذه التجاوزات تحويل الإمدادات الإنسانية المخصصة للمحتجزين الصحراويين في مخيمات تندوف إلى جهات خاصة لبيعها في السوق السوداء، بالإضافة إلى التلاعب في المساعدات الموجهة إلى غزة.
قام الموظفان برفع تقارير رسمية تفصل هذه الخروقات إلى رئاسة الجمهورية والجهات الوصية. إلا أن ما حدث كان مخالفا للمنطق، فبدل فتح تحقيق في جوهر ما تم كشفه، صدرت التعليمات بتحريك شكاوى قضائية ضدهما.
وهكذا واجه بن شطاح وزيتوني شكاوى قضائية بتهم التشهير ونشر أخبار كاذبة، انتهت بإدانتهما وسجنهما.
شهادات صادمة عن «التعذيب والتحقير»
بعد انقضاء مدة الحكم وخروجهما من السجن، أدلى بن شطاح وزيتوني بشهادات علنية عبر فيديوهات على فيسبوك، كشفا فيها عن الظروف القاسية التي عاشاها خلال فترة الاحتجاز.
وأكد الاثنان تعرضهما للإهانة اللفظية والتحقير والضغط النفسي المكثف ومنع الراحة والترويع النفسي، إلى جانب أساليب تحقيق تمس «كرامتهما الإنسانية».
وروى الضحيتان في شهادات مصورة تعرضهما أثناء التحقيق داخل مقر الأبحاث للدرك الوطني، بحضور المشتكية ابتسام حملاوي، لإهانات لفظية ومعاملة قاسية تضمنت التعذيب النفسي، والمنع من الراحة، والترويع المتعمد، في ظروف ماسة بالكرامة الإنسانية، وهو ما يُصنف ضمن المعاملة القاسية أو اللاإنسانية وقد يرقى إلى مستوى التعذيب، بحسب المعايير الدولية.
الوجه السلطوي لابتسام حملاوي
بالإضافة إلى تهم الفساد واستغلال النفوذ، كشفت شهادات الموظفين السابقين عن جانب آخر من شخصية ابتسام حملاوي، يتمثل في السلطوية وحب التظاهر بالكمال.
وفي هذا السياق، روت الصحفية هاجر زيتوني كيف كانت رئيستها تدفعها إلى استعمال حسابات بأسماء مستعارة على وسائل التواصل الاجتماعي، كان الهدف منها تلميع صورتها والرد على كل منتقديها.
وأكدت زيتوني أنها كانت تُرغم على القيام بهذه الأدوار، رغم أن هذه المهام لا تدخل ضمن نطاق عملها كمديرة للاتصال بمنظمة الهلال الأحمر الجزائري، وهو ما يشير إلى استخدام سلطتها لفرض أجندة شخصية بعيدة عن الأهداف الإنسانية للمنظمة.
سجل حافل بالنفوذ والجدل.. من تكون ابتسام حملاوي؟
ليست هذه المرة الأولى التي يطفو فيها اسم ابتسام حملاوي ضمن فضيحة مدوية، بل إن سجل هذه «الطبيبة الجراحة» أصبح مرادفا للجدل واستغلال النفوذ. فمنذ أن تركت ممارسة مهنتها كطبيبة واقتحمت عالم السياسة من باب المخابرات، تحولت مسيرتها بالكامل لتنفيذ «مهام» ربطها الصحفيون والسياسيون المعارضون بسلسلة من التجاوزات التي جعلت منها شخصية محورية في «غرف عمليات» السلطة والنفوذ داخل نظام العسكر الجزائري.
وسبق للمعارض الجزائري أمير بوخرص، المعروف بـ«أمير دي زاد»، أن خصص عدة فيديوهات تتطرق بالتفصيل لفضائح حملاوي حتى قبل تعيينها رئيسة للهلال الأحمر الجزائري عام 2020، حيث كان ينشر على المباشر وثائق ومستندات تدل على عدم نقاء سريرتها.
بدوره، بث الصحفي الجزائري المقيم في فرنسا محمد سيفاوي تحقيقا حول هذه المرأة بتفاصيل أعمق، حيث أشار إلى أن ابتسام حملاوي، هي طبيبة عامة سافرت إلى فرنسا من أجل دراسة جراحة القلب عام 2015 بمنحة دراسية، بيد أن هدفها لم يكن له علاقة بالدراسة، يجزم هذا الصحفي الاستقصائي.
واستغرب سيفاوي كيف لطالبة طب يفترض أن تكون منشغلة بين قاعات الكلية والمستشفيات للتحضير لأطروحتها، بينما كانت حملاوي تقضي كل أوقاتها في فرنسا بنسج العلاقات والتنقل بين الفنادق والحانات، تلتقي تارة برموز النظام وتارات أخرى بالمعارضين.
وبحسب سيفاوي، فإنها نسجت علاقات مع وجوه نافذة في النظام الجزائري، أبرزهم الجنرال المدعو بشير طرطاق ومحمد بوزيت، الذي كان يشغل منصب مدير الاستخبارات الخارجية. وقال إن هؤلاء استغلوها للحصول على أخبار معارضين للنظام في الخارج، مستخدمة « أسلوبها الخاص » للتقرب منهم.
وأشار إلى أنها كانت تحرص على إظهار ولائها التام لرموز النظام بغية استقطابها، حيث دافعت عن العهدة الخامسة وهاجمت الحراك الشعبي في 2019، قبل أن تصبح داعمة لعبد المجيد تبون بعد توليه الرئاسة، وكان حلمها هو أن تحصل على منصب وزاري.
وفي عام 2020، جرى تنصيبها على رأس الهلال الأحمر الجزائري. ويؤكد سيفاوي أنها تقوم في النهار بتوزيع المساعدات والتحدث عن المجتمع المدني، لكن في الليل تستغل علاقاتها لتصفية الحسابات، حتى «صارت تحكم في الجزائر» وتزج بالسجن كل من يخالفها أو ينتقدها على وسائل التواصل الاجتماعي.
وأضاف سيفاوي أن درجة الاستقواء بلغت بها التحكم في الجنرالات والوزراء والقضاة والأجهزة الأمنية والصحفيين، حيث تستخدم علاقاتها لتلميع صورتها والانتقام من معارضيها.
وفي يوليوز الماضي، انتشرت عبر شبكة الإنترنت صور مسربة تظهر فيها ابتسام حملاوي عارية داخل غرف نوم. أُرفقت هذه الصور بتعليقات تزعم أنها لرئيسة منظمة الهلال الأحمر الجزائري رفقة مسؤولين مقربين جدا من الرئيس عبد المجيد تبون.
مثلت هذه الصور فضيحة تجاوزت الشأن الخاص إلى السياسي، نظرا لمركزية الشخصيات المزعوم تورطها. ورغم الضجة الكبيرة التي أثيرت حول خطورة الموضوع وتداعياته على المؤسسات، إلا أن السلطات المعنية التزمت صمتا مطبقا ولم تصدر أي رد فعل رسمي، في سلوك اعتبره المراقبون تحديا لأسئلة الشفافية والمساءلة.
في المقابل، واصلت بطلة الفضيحة ممارسة مهامها وحياتها وكأن شيئا لم يحدث، ما عمّق الشعور بانعدام المحاسبة في قضايا النفوذ.
بدوره، خصص أنور مالك، الإعلامي والمعارض الجزائري اللاجئ في فرنسا، حيزا كبيرا لهذا الملف في قناته على يوتيوب، وقال إن المخابرات الجزائرية حاولت إسقاطه في الفخ عن طريق ابتسام حملاوي، غير أنه كان فطنا بفضل علمه بأساليب هذه المرأة التي وصفها بـ«الشريرة»، فتمكن بذلك من النجاة من « بلاوي ابتسام حملاوي »، على حد تعبيره.
مطالب بفتح تحقيق فوري
أشعلت فضيحة ابتسام حملاوي غضب فئات واسعة من الرأي العام الجزائري في الداخل والخارج. وضجت مواقع التواصل الاجتماعي بالإدانة والاستنكار والمطالبة بمحاكمة هذه المرأة ومن يقف وراءها.
كما أثار هذا الملف تفاعلات واسعة في الساحة الإعلامية والسياسية، وسط دعوات من حقوقيين وإعلاميين وبرلمانيين لفتح تحقيق شفاف ومستقل بشأن ما قالوا إنه تجاوزات طالت الإطارات داخل مؤسسات ذات طابع إنساني وجمعوي.
وعلق الصحفي الجزائري عبدو السمار، اللاجئ في فرنسا، على القضية بسخرية، متسائلا: «هل تحوّلت ابتسام حملاوي إلى كليوباترا الجزائر؟»، في إشارة واضحة إلى نفوذها غير المحدود وصلاتها المعقدة داخل النظام السياسي والعسكري الجزائري.
وترى منظمة «شعاع» لحقوق الإنسان أن شهادات بن شطاح وزيتوني تشكل انتهاكا صريحا للدستور الجزائري، الذي يحظر التعذيب والمعاملة القاسية، وخروقا لالتزامات الجزائر الدولية، ولا سيما اتفاقية مناهضة التعذيب.
وطالبت المنظمة، الكائن مقرها بلندن، بـ«فتح تحقيق فوري ونزيه وشفاف في مزاعم التعذيب وسوء المعاملة، وبضمان استقلال القضاء، ومحاسبة كل من يثبت تورطه في الانتهاكات أو التدخل في مجريات التحقيق». كما دعت إلى «توفير حماية قانونية حقيقية للمبلغين عن الفساد، بدل تحويلهم إلى متهمين.»
وفي خضم هذه التطورات المدوية التي كشفت عن شبكة معقدة من النفوذ والولاءات، أعادت هذه السلسلة من الأحداث طرح السؤال الحاسم والمؤلم على الرأي العام الجزائري: «من يحكم فعلا في الجزائر؟» هل هي سيادة القانون التي يفترض أن تحمي المبلغين عن الفساد، أم هي شبكة من النفوذ والولاءات القادرة على تحريك مفاتيح السجون في وجه كل المعارضين والمنتقدين وكاشفي الحقائق؟








